أقضي هذا الفصل الدراسي، في محاضرات مكثفة حول الكتابة الأكاديمية والقراءة الأكاديمية، وتحليل النصوص على نحو أكاديمي والنزاهة الأكاديمية والبحث الأكاديمي وعدة مهارات أخرى تنتهي بكلمة أكاديمي..ربما كان من ضمنها توجيه قاذفات القنابل على نحو أكاديمي..لا أتذكر حقيقة.
أقطع طريقي يوميا داخل مبنى "هاس" وهو مبنى صمم خصيصا لتضليل أي شخص يحاول الانتقال فيه من أي نقطة لأخرى، مبنى مثالي للعبة الاستغماية، مبنى يسخر منه الأكاديميون والإدرايون والطلبة والعمال والزائرون العابرون..مبنى مصمم على نحو شنيع..إذا دخلته ربما لا تخرج منه أبدا (ربما تتردد إشاعات بأن البعض فقد داخل هذا المبنى منذ مارس 2010).
أتحرك داخل مبنى "هس" غريزيا، ولا أدقق في اللوحات الإرشادية ذات الطابع التضليلي البحت. من وقت لآخر أرى بوستر صغير لحازم صلاح أبو اسماعيل وقد علقه أحدهم، أو دعوة لحضور حفل جاز أو ملصق دعائي يدعو لمناصرة سوريا.
تتعدد المطبوعات الصحفية التي ينتجها الطلاب، وكلها شبه تحررية تقريبا، تهاجم سياسات الجامعة بخصوص حقوق العمال، وتتحدث بصراحة وتنوع وتبدو صحية عفية إلى مدى بعيد.
ويغلب عليها طابع من الركاكة المقنعة في كلا الإصدارين: العربي والإنجليزي..وهو طابع أصيل حين يحاول الطلاب في كل مكان في العالم إنتاج صحف.
لكن بعكس ما يشاع (وسط البعض) من أن الطلبة هنا منحلون، يشربون الخمور نهارا ويمارسون الرذائل جهارا ويدهسون بيوت الفلسطينيين في فناء الجامعة، ويرفعون العلم الأمريكي على سبيل الانتماء والاحتفاء..لم أجد كل هذا.
بل لقد كانت مساحات التلامس والهزار بين الطلبة والطالبات في جامعة عين شمس، حيث كنت هناك قبل شهور لاستخراج بعض الأوراق، أكثر جرأة وحميمية مما يجري هنا.(وما يجري هنا ليس شيئا مقارنة بما يجري في مصر كلها الآن).
لن تعدم طالبا يصلي وسط أرفف المكتبة العملاقة، ولن تعدم طالبة تنام تحت شمس الحديقة الخلفية للجامعة ، الجميع هنا يمارس حياته على نحو آمن و"متحرر".
لايوجد شيء أو عكسه، ليسوا منحلين أو أخلاقيين، ليسوا أي شيء أو عكسه.
لكن ما الذي يدفعنا للاعتقاد بأن هناك شيء مختلف هنا أساسا؟
المقارنة تفرض نفسها بداهة، حين أقارن-شعوريا ولا شعوريا-بين الجامعة الأمريكية وجامعة عين شمس التي قضيت فيها سنواتي الجامعية الأربع.
هنا الفارق الجوهري أن هناك مؤسسة تعليمية، هناك عملية تعليم تجري وفق مقاييس ومعايير واضحة، هناك خطة تكفل تكوينك ذهنيا وبناءك معرفيا على نحو سليم.
أجلس يوميا في المكتبة العملاقة، بينما لا يبدد كآبة المبنى الغبي للمكتبة والذي يشبه مباني الاستخبارات السوفيتية سوى مشهد الطلاب الأصغر سنا مني في زخمهم الدائر من الناحية الشرقية للمكتبة، أو مشهد الحديقة الواسعة في الناحية الغربية للمكتبة.
أقطع-يوميا- على قدمي مسافة لا بأس بها وسط طريق الزهور الطويل، وأجلس تحت الشمس أمام إحدى النوافير كي أفكر في أي شيء ما قبل أن أدخل لمحاضراتي الكثيرة جدا. وأتبادل نظرات ودودة مع البعض ونظرات عدوانية مع آخرين (الأرواح جنود مجندة كما في الحديث الشريف).
أذاكر قليلا وبالطبع اصطدم بمعايير الجامعة، ربما لأنني بطبعي ضد الانتظام المؤسسي الرافض للاختلاف.
أنا أرفض أن تكون هناك طريقة وحيدة لإجراء البحث وطريقة وحيدة للإجابة وطريقة وحيدة للمعرفة، لذلك حصدت إعجابا لا ينكر من زملائي وأساتذتي وفقدت درجات كثيرة في الطريق.
الجميل هنا أن أحدا لا يسفه آرائك أو يرفض طروحاتك، إنهم يتناقشون ويتجادلون، ويصارحونك كثيرا بأنهم لا يعرفون ما الذي تتحدث عنه ويطلبون منك أن تزودهم بالكتب والمراجع..الجميل هنا أن هناك شيء ما يحترم إنسانيتك.
حين طفح كيل أستاذتي (وسأحكي لكم عنها لاحقا) قالت لي: من فضلك أحمد، نحن نختبر قدرتك في التحرك داخل النص واختيار الأجزاء الدالة وإعادة انتاجها أكاديميا على نحو صحيح..نحن نختبرك فيما نعطيك إياه..ولا نختبر معارفك العامة..كف عن استخدام معارفك..كف أن تكون كسولا..انتزع قلمك الرصاص والقلم العريض الملون، واستخرج الملاحظات على الهامش، ولا تتوقع كل هذه التوقعات الصحيحة..أنا أعرف أنك وغد ذكي..لكني أريدك وغدا يستذكر وأريدك أن تخطيء وفق معاييرنا كي نصحح لك وفق معاييرنا.
ابتسم في وجهها وأقول أنا فعلا وغد كسول، يحاول تبرير رغبته في فعل اللاشيء بمنطقته وتبريره.