90s fm

السبت، 27 سبتمبر 2008

وقال الشرطي:ر حلة سعيدة سيد أحمد

أنا الآن بمطار ساركيوز بنيويورك،انتهيت من إجراءات الفحص والتفتيش وقد احتفوا بي كما يليق بشرق أوسطي..خلعت حذائي_كما يفعل الجميع_ثم شرعوا في إقامة احتفالية خاصة بي تتضمن تفتيش حقائبي بتدقيق بالغ وعرضها علي أجهزة البحث عن المتفجرات والسوائل الخطرة وما تيسر من مصائب..

أخرجوا حاجياتي بعنف نوعا ما،رفضوا ان أساعدهم،أخرجوا اللاب توب من الشنطة بقسوة،استوقفوني بريبة استرعت الانتباه..ثم قالوا لي :رحلة سعيدة سيد أحمد..

جلست علي مقعد جلدي أسود،أخرجت "أن تعيش لتحكي"..سرحت قليلا مع ماركيز،ثم تنبهت إلي "فيشة"/قابس متاح علي بعد أمطار،ونوه لي وائل :"الانترنت مفتوح"..

فلأستغل الوقت لأحكي إذا..

*قضيت ليلة أمس بفندق المطار،بدا مهجورا كئيبا ،أحسست أني في إحدي دول أوروبا الشرقية بأجوائها المجدبة التي تصورها أفلام هوليوود.

كانت ليلة أمس في غاية الأهمية بالنسبة لي ،كأني وصلت فيها لسر الخلطة،قرأت فيها كثيرا،وشييء لي أن أشهد تجليات ليلة القدر هنا في بلاد العم سام.

*حزنت كثيرا لأني لم أكن صائما طوال الرحلة،وأفطرت مستغلا الرخصة، قضيت أياما عصيبة في واشنطن،جعت فيها أكثر من جوع الصائمين،ولم أستطع التأقلم مع الفاست فود ولا البيتزا الامريكية بحال من الأحوال..

*وقعت في حب ساركيوز منذ أن وطأت قدماي أرض مطارها،البلدة جميلة،الغابات في كل مكان والمساحات الخضراء بامتداد البصر،والموسيقي دائما قريبة منك..

المدينة كلها اشبه ما تكون بحرم لجامعة ساركيوز،ولا أخفيكم كان لحركة الطلاب أمام عيني طوال الاسبوع الذي قضيته هنا أثرا جميلا في نفسي..

أقمت علاقات جيدة مع عدد منهم وناقشتهم كثيرا،وكانوا ودودين للغاية،وتواعدنا علي أن ألتقيهم بعد شهر من الآن ان شاء الله..

*ساركيوز تصلح للتعافي من أي أثر عاطفي سيء في نفسك،من التجارب الفاشلة في حياتك،من اخفاقاتك من سوء حظك،ساركيوز تصلح بجدارة لمثل هذه الأشياء...

عذرا مش هعرف اكمل البوست ده اللي عايز احكي فيه كتييييييييييييير،لان الطيارة هتقوم

نستكمل وقت تاني ياشباب..دلوقتي هروح واشنطن ومنها لباريس ثم القاهرة..قدامي 21 ساعة سفر..دعواتكم بقي

لا إله إلا الله

الأحد، 21 سبتمبر 2008

هل يحدد الفاست فود رئيس أمريكا القادم؟

في واشنطن،لا أحد يفطن حقيقة إلي ماهية الطعام الذي يأكله،معظمه فاست فود خاضع لقواعد طهو وإعداد وعرض غير واضحة ،علي الاقل بالنسبة لي.

تسألك السيدة اللاتينية ـأو الزنجية في كل مطعم تذهب إليه،وفق إيقاع سريع مبتهج :"هل تريد الكاتشب؟..مزيد من الموستردا؟ بصل؟ طماطم؟ تفضل سيدي...بون أبيتيت!

بعد الاضافات ومع تعدد الاصناف،لا أحد يعرف حقيقة هل يأكل صدور الفراخ أم شرائح الخنزير أم بفتيك لحم التنين الأحمر..

"كاتشب سيدي؟ بصل؟ إضافات أخري؟"

أشعر أن الامريكيين ينتخبون رئيسهم علي طريقتهم الفاستفودية في اختيار وتناول الطعام وسط ماكينة الاحداث والالتزامات اليومية "أوه أوباما سينسحب من العراق ..جيد؟ ماكين سيخفض الضرائب..يا إلهي؟أوباما ينادي بالتأمين الصحي؟ماكين وسارة سيلقون خطابا اليوم؟ميشيل اوباما تتحدث عن حملة زوجها الانتخابية ؟"..حسنا ياللهم من أولاد جيدين.

مزج غير مخل بالمعني:

"هل سينسحب أوباما من العراق؟ مزيد من الكاتشب؟ ماكين سيخفض الضرائب؟ موستردا سيدي؟" ياللهم من أولاد جيدين..بون أبيتيت

السبت، 20 سبتمبر 2008

تعافي


هربت صباح اليوم من جحيم دي سي العاصمة

واشنطن لا تصلح محلا لمثلي،ومثلي لا يصلح لها..وقد أرك كلانا ذلك منذ البداية

أنقذني الله من هلاك الإقامة في فندق "كلاب كوارتر" الذي اقترح اضافة جملة تعريفية الي اسمه في دليل المدينة "كلاب كوارتر لخدمات الرعب غير المحدودة"..

جئت ظهرا إلي مدينة ساركيوز،بولاية نيويورك،وقد وقع المحظور "رمت الفؤاد مليحة حسناء..بلحاظ سهم ما لهن دواء"..منذ اللحظة الأولي أحببت ساركيوز..

يفترض أن يكون هذا الاسبوع أكاديميا بعض الشيء بجامعة ساركيوز،وهي واحدة من أفضل جامعات العالم في مجال الاعلام،وهذا شيء جيد إن تحدثنا سويا بقلب مفتوح.

كان في الاستقبال فتاتين تدرسان بالجامعة،سيرا و سيلينا..

ولأسباب نصف مفهومة،توطدت علاقتي سريعا ب "سيرا" ذات الأصول الألمانية الايطالية الميكسيكية،والتي تحمل_وياللغرابة_ ملامح صينية صرفة!

خرجت ووائل مع كلتا الفتاتين وفق البرنامج،وحضرنا مبارة كرة قدم أمريكية (لعبة عنيفة غير مفهومة تماما لكل من هو غير أمريكي) وتحدثنا كثيرا عن الفراعنة والشرق الاوسط والاعلام وصراع الحضارات ..والسينما الامريكية..وتبادلنا عددا من القفشات والنكات.

ساركيوز،مدينة هادئة،تبدو طيبة،تصلح_كما يتراء لي_ للتعافي من قسوة واشنطن

الخميس، 18 سبتمبر 2008

طائرات عسكرية بالقرب من مكتبي نصف المستدير


في الدور الثاني عشر،بضاحية كورت هاوس،أجلس الآن علي مكتبي نصف المستدير،في مقر الواشنطن بوست..

الزجاج يتيح لي رؤية ولاية فيرجينا وأشجارها وغاباتها بوضوح..المشهد أكثر من رائع..

لا ينصح بالاقتراب من النوافذ،حرصا علي أعصاب مرضي الخوف من الاماكن المرتفعة ،الذين اكتشفت مؤخرا أني واحد منهم..

منذ دقائق انطلقت عدة طائرات عسكرية أمريكية بسرعة مزعجة استرعت انتباه كل الجالسين هنا..

صوت الطائرات أشعرني وكأنها ستخترق الجدار الزجاجي القائم علي يميني لتسحقني بلا هوادة..

بعدها بدقيقة ونصف تقريبا،خرجت 5 طائرات هليكوبتر مسرعة باتجاه الشمال..

أجلس الآن بين فرضيات عدة :

1- هل هو تدريب؟

2-هل هو تأمين؟

2- هل هناك كارثة؟

3- هل كنت أتوهم؟

4- هل سأموت ميتة تافهة مثل تلك التي كانت ستحدث منذ قليل؟

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

إيميلي

رافقت اليوم "إيميلي" ،من واشنطن بوست، إلي حيث ندوة نسائية كبيرة،بدأت وانتهت بإعلان هذا الكيان النسوي الكبير الذي لا أتذكر اسمه بالتصويت لصالح باراك أوباما..

إيميلي جميلة،تعتصر يديك أثناء السلام،ثرثارة_وهذا شي يروقني جدا،ستتزوج بعد قليل_يتمم بخير ان شالله_..وأخيرا يهودية..

جميلة..أمر جيد فأنا لا أستسيغ الجمال الأمريكي،وحين ألتقي فتاة جميلة هنا فإن هذا شيء يستحق التسجيل.

تعتصر يديك أثناء السلام..هذه علامة جدية في التعامل لم أفهمها تماما مع الامريكيات اللوائي قابلتهن في حياتي علي مدار ظروف مختلفة.

ثرثارة..كان شيئا مفيدا علي المستوي المعرفي لكل منا بالآخر..

ستتزوج بعد قليل..من صحفي أمريكي وأنا أكره زواج الصحفيين من بعضهم البعض بشدة..

يهودية..تجربة مدهشة أن أتعامل مع يهودية،فالمرة الوحيدة التي تعاملت فيها مع يهودي كانت خلال interview منذ عام مضي ولم أعرف أنه يهودي الا بعدها بشهر تقريبا حين راجعت اسمه..

يهودية..كان أمرا مثيرا،خصوصا أني قضيت نصف طريقنا سويا ألعن في إسرائيل،وأهاجم أمريكا،بينما هي تدقق في سؤالي عن الدوافع،وأسهب أنا في الشروح..

إيميلي..كانت لطيفة وقضيت معها يوما عمليا معقولا..وهذا يكفي.

الجمعة، 12 سبتمبر 2008

لماذا تركت المكتب يابوب؟


ذهبت الي الوشنطن بوست أول أمس،وحين اقتربت من مكتب بوب وودورد،قالوا لي :بوب ليس هنا،إنه يدير أعماله من مكتبه الخاص..ثمة رعشة إحباط خفيفة تلبستني،نظرت حزينا وتساءلت قبل أن أهم بالرحيل.."لماذا تركت المكتب يابوب؟"

الخميس، 11 سبتمبر 2008

11 سبتمبر 2008.. يوم أن بكي السيناتورز ونكس العلم الأمريكي..واشنطن(2)


خرجت من مبني الكونجرس اليوم 11 سبتمبر في الثانية عشر تقريبا،بينما أنزع عن بذلتي السوداء الملصق الورقي الذي يشير إلي أني صحفي في زيارة إعلامية رسمية.

بعدها بقليل توافد السيناتورات في مشهد مهيب،إلي واجهة المبني العملاق بينما الموسيقي الجنائزية لا تكف عن الأنين،في حين يقف مواطنون أمريكيون أبرياء حزاني مطأطأي الرأس،يجرحهم تذكار الضحايا،وحادث النيل من "الوطن".

اقتربت من الحشود الواقفة،بينما يتفرسني أحد رجال الأمن،وتتشتت استنتاجاته حول ماهية شرق أوسطيتي التي تنوء بها تفاصيل وجهي..في حين أمد بصري نحو الأعلام الامريكية المنكسة علي كل مبني(منكسة حتي المنتصف).

وقف النواب،البعض متجهم والبعض ينتحب(مثلما فعلت سيناتور ترتدي بلوزة زرقاء لا أعرف اسمها) فيما الآخرون منتبهون يستحضرون رباطة جأشهم أو يحاولون ادعاء ذلك..

جاء قس وخطب خطبة صغيرة حول الرب وأمريكا والاشرار والطيبين،ثم تناوب علي منبر الحديث عدد من أعضاء الكونجرس،بينما المواطنون بجواري حزاني وكأن البرجين سقطا لتوهما..

وضع الجميع يمناه علي قلبه حين بدأ عزف النشيد الوطني في حالة هوس وطني حميدة..

تكلم السيناتورز عن الاشرار والطيبين وابتلهوا الي الرب أن يحفظ أمريكا..

وقفت حائرا فانا طفل شامت في أمريكا "الإدارة السياسية والامبراطورية المتوحشة" ،وفي نفس الوقت متعاطف مع الضحايا إلي ما لانهاية،ولا أري لهم ذنبا في حماقات باقي أطراف اللعبة.

أتعاطف معهم لأن الامريكيين طيبون_وهذه حقيقة_ ولا ذنب لمواطنين أبرياء في لعبة تجار السلاح والبترول،وأنتشي داخليا _بخبث_ فيما حدث لامبراطورية الشر المنظم.

أقف أمام الكونجرس،يلفحني هواء بارد حزين يليق بسبتمبر التراجيدي،بينما يهفهف جاكت بذلتي السوداء،أود لو سلمت علي المواطنين الحاضرين واحدا واحدا وعزيتهم بحرارة وصدق،ولأذهب بعدها إلي السيناتورز بوصفي مبعوث الشر (الإسلام والعرب والشرق الأوسط وما إلي ذلك من تفاصيل) لأبتسم ابتسامة خبيثة..نصف شامتة..شبه متشفية..ولأرجع بعد ذلك إلي وطني آمنا..ما أمكن ذلك.

الثلاثاء، 9 سبتمبر 2008

توهان أول..واشنطن(1)

استغرقني الحديث مع عامل فيتنامي،بينما استقل مترو الانفاق في واشنطن العاصمة عصر اليوم،فاتتني المحطة وفقدت زملائي المصاحبين..

تعاطف معي الركاب جميعا لأسباب لا أفهمها تماما..نزلت وعدت أدراجي،صعدت إلي غرفتي بالفندق،لا تبرح مخيلتي وجوه الزنوج البائسة،ولا تحجر سائق التاكسي الهندي،ولا جهل العامل الفيتنامي الذي تهت بسببه أن هناك بلدا يسمي مصر.

الخميس، 4 سبتمبر 2008

عبد الباسط عبد الصمد..الشيخ براندو

عيناه الخضراوان ووسامة وجهه كانتا وثيقة الإدانة الكاملة ،فهذا الرجل لم يخلق ليكون شيخا معمما ولا زاهدا ناسكا، بل ارتأي كثيرون_ومن بينهم فايزة أحمد ومحمد عبد الوهاب_ أن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ولد ليعمل مطربا لا مقرئا..ومن هنا فقد أطلق عليه البعض لقب "الشيخ براندو"..في مضاهاة ظريفة لنجم هوليوود في ذلك الوقت ..الوسيم "مارلون براندو".

لكن عبد الباسط كان له رأي آخر،كان إحساسه بكتاب الله الذي يحمله بين جنباته إحساسا مختلفا ،دفع بالشيخ الوسيم إلي أفق غير محدود،تلاقت فيه أقصي درجات الفن مع أنقي درجات الإيمان..لايكاد سامعه يستفيق أبدا من روعة التلاوة ولا من يقين الخشوع الذي يتخلل موسيقي منطقه،قراءته مبتداها حنجرته ومنتهاها السماء السابعة..التقي_مع عبد الباسط_ المعادل الفني مع المعادل الإيماني في لقاء قلما يتكرر علي هذا القدر من العظمة والجمال.

في جنوب مصر،أرمنت،محافظة قنا،عام 1927،ولد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وحفظ القرآن لعشر سنين، ورعاه أبوه مذ كان طفلا متمثلا فيه شيئا ما لم يكن يستطيع تسميته،يحكي الشيخ فيما نسب إليه من مذكرات " يقول الشيخ عبد الباسط في مذكراته :" كان سني عشر سنوات أتممت خلالها حفظ القرآن الكريم الذي كان يتدفق على لساني كالنهر الجاري ، وكان والدي موظفاً بوزارة المواصلات ، وكان جدي من العلماء فطلبت منهما أن تعلم القراءات فأشارا علي أن أذهب إلى مدينة طنطا لأتلقى علوم القرآن والقراءات على يد الشيخ محمد سليم ، ولكن المسافة بين أرمنت وبين طنطا بعيدة ، ولكن الأمر كان متعلقاً بصياغة مستقبلي ورسم معالمه مما جعلني أستعد للسفر ، وقبل التوجه إلى طنطا بيوم واحد علمنا بوصول الشيخ محمد سليم إلى أرمنت ليستقر بها مدرساً للقراءات بالمعهد الديني بأرمنت ، واستقبله أهل أرمنت أحسن استقبال واحتفلوا به وأقاموا له جمعية للمحافظة على القرآن الكريم بـ ( أصفون المطاعنة ) فكان يحفِّظ القرآن ويعلم علومه والقراءات ، فذهبت إليه وراجعت عليه القرآن كله ثم حفظت الشاطبية."

و في إحدي ليالي عام 1945 صعد الفتي أخضر العينين جميل القسمات إلي منصة التلاوة في قرية مجاروة لقريته "المراعزة" وأخذ يلهج بكلمات الله ويتغني بالذكر الحكيم في ليلة لن تنساها تلك القرية إلي الأبد..في تلك الليلة الصافية أطلق الفتي اليافع عبد الباسط لحنجرته الإذن لتعلن عن نفسها علي الملأ للمرة الاولي مؤسسا أول حجر في دولة تلاوته .

وكان طبيعيا أن يجد الفتي الملائكي الصوت طريقه للإذاعة المصرية،إلي أن حصل علي وسامها عام 1950،لتتفتح له كل الآفاق بعد ذلك،وليتعرف المسلمون وغير المسلمين أن هناك نفحة سماوية تجلت في حنجرة ذلك الشيخ..وكما هو معروف "ألا إن لله في أيام دهركم نفحات..ألا فتعرضوا لنفحات الله"..وبالفعل لم يكذب الناس خبرا،ذهبت القلوب والنفوس الي نفحات الله..ذهبت بإخلاص ومحبة وتلقائية إلي الشيخ المرهف واستمعت الي كلام ربها.

وفي بداية الخمسينات وبينما الشيخ بصحبة أبيه،في صحن الحرم المكي أثناء أداءهما فريضة الحج التف حوله المعجبون،وجاءه مدير إذاعة جدة إبراهيم الشوري وطلب منه أن يرتل القرآن بصوته في الحرم..وقد كان..وبلغ صوت الشيخ عنان السماء،ليس دونها ودونها حجاب.

ثم طلب منه الشوري أن يسجل القرآن بصوته لإذاعة جدة،فقبل الشيخ ثم قرأ القرآن أمام الملك سعود،وذهب الي الحرم المدني،ورتل الايات ترتيلا بجوار رسول الله في مقامه الشريف،ومنذ ذلك القوت انفتحت الآفاق في حياة الشيخ إلي مالا نهاية،وطاف بلدان العالم الاسلامي يقرأ القرآن ويحصد الاعجاب..ترق له القلوب ويسعي اليه الملوك والرؤساء والوجهاء..ويهلل ويكبر علي نغم تلاوته البسطاء.

أصبح الشيخ الملائكي الصوت ملء السمع والبصر،حتي قيل أن فايزة أحمد ومحمد عبد الوهاب حاولا إقناعه باحتراف الغناء،ولما آثر الشيخ أن يعيش للقرآن ويموت له،مازحه عدد من مشاهير المطربين :"أهو أحسن لينا لاننا كنا هنقعد في بيوتنا لو انت غنيت".

بدا أن للشيخ المرهف طريقته المميزة في القراءة،إذا بسمل أخذك إلي عالم غير محسوس تشعر أنك زرته من قبل لكنك لا تتذكر ما هو ولا اين هو،فقط كل المعلومات المتوفرة عنه أنك لايمكنك زيارته الا اذا استمعت الي الشيخ عبد الباسط.

وما أدراك ما بعد البسملة،فالشيخ يتحرك من آية لآية كأنما يرتقي سلم الصعود إلي السماء،وتباعا فأنت بجواره ..يصعد الشيخ فتسمو روحك وتتحس معه الملأ الأعلي بمكوناته..كيف هو؟

للشيخ تلاوات شهيرة لسورة يوسف علي وجه الخصوص،واحدة منها لا تترك لسامعها الفرصة كي يمارس فعل "الاعجاب" أو يندهش علي أقل تقدير.. ليس بوسع سامعها أن يجلس مكانه أو أن ينعقد لسانه..ستقوم من مكانك منفعلا لو أنك من النوع العاطفي،وسينطلق لسانك لو أنك من الطراز الروحاني من الناس :"اللاااااااااااااااااااااااااااااه".

في هذه القراءة جاء الشيخ علي مشهد مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام وهي تقول :"هيت لك"..فقرأها عبد الباسط خمسة مرات بأربع قراءات مختلفة"هيتٌ لك" و"هيتُ لك" و"هئت لك" وهًيت لك" كان مؤاداها النهائي أنك تكاد تري امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه وتخلع عنه قميصه ممزقا قد من دبر!..وصمت الشيخ هنيهة ثم قال بلسان يوسف بحزم وجدية :"معاذ الله".

كرمت عدة دول الشيخ الجليل منها سوريا بمنحه وسام الاستحقاق، ووسام الأرز من لبنان والوسام الذهبي من ماليزيا ووسام من السنغال وآخر من المغرب،وانتهت حياته الحافلة مثلما تشير بعض المصادر :" عندما تمكن مرض السكر منه تمكناً شديداً ثم أصيب بالتهاب كبدي مما دفع الأطباء إلى نصحه بالسفر إلى لندن للعلاج وكان بصحبته ابنه طارق ، وبعد أن مكث هناك في لندن أسبوعاً طلب من ابنه طارق أن يعود به إلى مصر ، وفي تاريخ 30 / 11 / 1988 م فارق الشيخ عبد الباسط هذه الحياة إلى حياة أبدية أزلية" .

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

الحصري..رتّل فأبكي


لا يترك الشيخ محمود خليل الحصري لمحبيه وعاشقي تلاوته الفرصة لاتخاذ المسافة الكافية منه إذا ما حاول أحدهم الكتابة عنه،هو قريب قرب صوته الدافيء، وحنون كموسيقي حنجرته السماوية، ومذهل يكتسح كل ما أمامه بأناقة وفروسية ،هو الأب ذو المهابة حينا،وهو الجد الحنون تارة أخري..عليك أن تتوحد معه توحده مع كتاب ربه..وإذا لم يحدث لك هذا..فاستمع له مرة أخري من فضلك لأنك لم تسمعه جيدا حتي الآن.

فالحصري لأسباب لا ندركها تحديدا،يبدو كأمر محسوم أزلا..هو الحصري وكفي..علي حنجرته هبط القرآن لاسطوانات الاذاعة المصرية،ومن حنجرته استمع ملايين المسلمين الي كتاب الله بقراءات عدة..لم نفق من بديع قراءته لحفص عن عاصم حتي باغتنا برائع تلاوته ل"ورش"..ومن قراءة لأخري ومن تلاوة لغيرها كان الشيخ الجليل يتحرك بثبات ورسوخ كما لو كان مبعوثا في مهمة خاصة،قطع علي نفسه عهدها قبل أن تحل روحه في بدنه.

ولد الشيخ الجليل الحصري عام 1917 في قرية شبرا النملة،وحفظ القرآن بكتاب القرية،وتم تعيينه بالإذاعة المصرية عام 1944 وخرج صوته علي الهواء مباشرة للمرة الأولي يوم 16 نوفمبر من نفس العام،إلي أن تقلد منصب شيخ المقاريء المصرية عام 1960، ليسجل في ذلك العام القرآن كاملا للمرة الأولي في تاريخ الاذاعة.وليمنحه عبد الناصر بعدها بسبع سنوات وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي.

وكان الشيخ _بطبيعة الحال_ في ذلك الوقت واحدا من تجليات قوة الدولة الناصرية التي رسخت نفسها بجيوش من المبدعين والمثقفين والموهوبين والعلماء والمشايخ والقراء، فالشيخ سافر مع عبد الناصر وصاحبه في عدد من جولاته الخارجية وكانت حنجرته السماوية وقراءته الرجولية الزعامية(إذا صح أن نصف أجواء تلاوته بهذه الصفات) جزءا من بريق زعامة مصر ونفوذها البالغ في ذلك الحين.وانظر إلي ما يعتري مستمعيه حين يعتلي الشيخ منصة التلاوة،بل بلغ الامر أن حمل عشاقه سيارته في ماليزيا وهو بداخلها تعبيرا عن محبتهم الفائضة وعشقهم الذي لا ينتهي للرجل المبارك.

وهو ما أدركه السادات بعد ذلك عندما قرر أن يصطحبه ايضا لعدة جولات خارج مصر،وبلغت الامور ذروتها حين قرأ الحصري القرآن في قلب البيت الأبيض أمام الرئيس الامريكي جيمي كارتر،ثم رتل الايات ترتيلا في مبني الأمم المتحدة.

لا تكفي القراءة الظاهرية لحياة الشيخ الحصري لمعرفة سر تفوقه الكاسح وتمكنه المذهل،فهذا الرجل إذا قدم إلي قراءة القرآن كان يبدو كما لو كان منفصلا عن كل ما حوله،تتسق روحه وحنجرته،ويتواصلان سويا مع أنشودة السماء دون وسيط أو وسيلة..الروح تعي والحنجرة تترجم "وما كان عطاء ربك محظورا".

قراءة القرآن لدي الحصري لم تكن عملا فنيا،أو أداءا احترافيا،كان رساليا يدرك أن ثمة شيء ما في القرآن أبعد وأعظم من مجرد تلاوته علي الملأ بصوت عذب وفقا لأحكام ضابطة حازمة فحسب،يحكي عنه الأديب والحكاء الكبير خيري شلبي أنه قال له :"سيولة التطريب تختزل ثلاثة أرباع التأثير القرآني المطلوب توصيله في كثير من الآيات التربوية الحاسمة..إن التطريب يجعل المستمع ينبسط وينتعش كما لو كان يسمع أغنية جميلة وهذا لا يجوز" ثم سكت الشيخ الحصري قليلا وقرأ آية من آيات العقاب والوعيد أمام خيري شلبي فاستشعر الاخير نوعا من الرهبة فقال الحصري بعدما صدق :"هكذا لابد أن أضرب المستمع بها في دماغه ليفيق مباشرة!".

وهذه الفلسفة في قراءة القرآن تظل هي السمة الابرز مع الحصري علي الاطلاق،فهو واحد من أكثر القراء تمكنا من إدارك العلاقة الصوتية المفترضة مع كل آية وفقا لغرضها ولموسيقاها الداخلية..فقد كان ينتقل من ضمير لآخر في القران مدركا طبيعة التلاوة المفترضة في هذا الجزء أو غيره،فإذا سمعته يتحدث بلسان الله :"يا موسي إني أنا الله" استشعرت رهبة الحق إذا تكلم..وإذا تكلم بضمير الوسيط كما ورد في الكتاب الحكيم :"يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم" ستسشعر خجل كليكما أمام خطاب الحق..بينما ستحس براعة القاص والحاكي الماهر حين تجتذبك الآيات تباعا :"فأجاأها المخاض الي جذع النخلة".

وكان للحصري حضوره إذا اعتلي منبر القراءة،فمن مسجد السيد أحمد البدوي الذي رتل فيه الشيخ القرآن ترتيلا من العام 1949 حتي العام 1955 إلي مسجد الإمام الحسين بالقاهرة،كان الرجل الجليل يدرك طبيعة ما نذرته الأقدار إليه..يلقي بالدنيا خلف ظهره ويجلس جلسته الثابتة..تتحرك يداه إلي خده عفوا وطوعا وتمارس روحه هوايتها المفضلة في العروج لأعلي كأنما ليعاين الوحي في منبعه الاول قبل أن يترجمه اللسان وتجهر به الحنجرة..يتلو الشيخ وهو راسخ في مكانه كأنما مهابته من مهابة نصه..وكأنما يشفق علي نفسه من عظم المهمة "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا" فيرق الصوت وتختنق العبرة ويذرف الرجل دمعا طويلا.ويحكي البعض أن آخر ما قرأه قبل وفاته عام 1980 قول الحق تعالي :"يسألونك عن الساعة أيان مرساها ،فيم أنت من ذكراها،إلي ربك منتهاها،إنما انت منذر من يخشاها،كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" وقالوا قرأها بصوت غريب وبلحن شجن وببصيرة صافية.

والعلاقة بين الحصري وكتاب الله لم تكن علاقة سطحية تنتهي سريعا بمجرد ترجله عن منبر التلاوة،بل الآيات ملء جوارحه وسمت سلوكه "وأما السائل فلا تنهر".. وهنا يحكي خيري شلبي :"شهدت بعيني الكثير من اعمال البر قام بها الشيخ الحصري،ورأيت الكثير من المساعدات الخيرية التي يقدمها للمشاريع الخيرية وللمحتاجين وللناس كأفراد ذوي حاجات من غير ان يعلنوا عنها أو يسألوه صدقة،كان سخيا جوادا".

ويحكي عنه ابنه السيد الحصري أن أباه كان حنونا وكان يشجع ابناءه علي حفظ القرآن وكانت مكافأة حفظ السطر خمسة عشر قرشا وحفظ الجزء الواحد عشرة جنيهات..كان ذلك عام 1960.