90s fm

الجمعة، 26 أكتوبر 2012

المورق اليانع حسام.. أو ما يقال عنه عام على رحيل حسام تمام


يمر اليوم عامُ بالضبط على رحيل حسام تمام. وفي عام كامل لم تبرحني ذكراه.
ما مرت من طريق إلا ولي معه فيه ذكرى، كأنه اختار أن نمر سويا في كل الطرق. يرحل وينقطع عن دنيانا إلا من علم ينتفع به، وسنين طوال من الذكريات الجميلة.
إنسانيا ومهنيا، حين أستدل على شيء ما في حكاية ما في حجة ما في سياق ما، دوما يكون للأمر علاقة بحسام بطريق أو أخرى.
كتبه التي ألفها، وتلك التي أخذتها منه على سبيل الاستعارة أو هذي التي قرصنتها بسيف الحياء، كلها تصادفني كل يوم كأنها تذكرني بصاحبها.
ربما لأن مجالسة حسام تحفر في وجدانك شيئا، تقودك حتما لشيء ما. 
كان حسام رحلة فكرية مكتملة الأركان..أسطورة جميلة تمت قبل أوان التمام..فكان لابد أن ترحل لعالم آخر غير الذي نحن فيه.
كل شيء من ذكراك عطر..فأي شرف هذا الذي رحلت دونه يا حسام؟
كل ذكراك شجرة ثابتة أصلها في الأرض وفرعها في السماء..ويانعٌ أنت مورقٌ دوما.
لاينال من حضورك، تغييب الدار الآخرة.
أصدقك القول حساما، حين دخلنا محل دفنك، كانت المرة الأولى التي أجد فيها مدافن مطمئنة أقرب للسكينة والابتهاج الهاديء منها للقبض والوحشة.
رحلت إلى ربك وخلفت زوجة شجاعة وقفت معك بكل جسارة بينما تسلم الروح لبارئك رويدا رويدا بتعاقب الشهور والأيام..وتركت أخا يشبهك تماما (الشكلٌ وربما الخلقٌ)، حين وقف في منتصف المسجد يسأل إن كنت مدينا لأحد كي يسد دينك، فعرفت أن هذا البيت بيت كريم الخلق شهم الخلقة أصلا.
رحلت وتركت إخوة لك من غير دم ولا لحم، كلهم يبكوك بحرارة لحظة الفقدان الأولى، وكلهم على نحو ما يدرك أن مثواك ليس إلا في مكان لم تره عين ولم تسمع عنه أذن ولم يخطر بقلب بشر..هكذا يتوارد في نفوسهم جميعا..وما كان الله ليخلف ظن المؤمنين..ما كان الله ليخلف ظن كل هؤلاء!
في سلام ترقد، ويقيني يا صاحبي، أن أجمل ما فيك لم نعرفه قط.
السلام عليك يوم التقيتك ويوم صاحبتك ويوم افتقدتك ويوم تبعث حيا.

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

انزلاقة الشنيور..أو ما أدعوه فقه المفك الصليبة



منذ الطفولة والمفك الصليبة دوما يشعرني بأن العالم بخير، وبأن هناك مساحة ممكنة دوما للسلام الداخلي.
انطباق صليبة المفك على أي مسمار "صليبي" الرأس..كان يشعرني أن هناك حلٌ مناسب لكل شيء في هذا الكون، وأن هناك أغراض-بطبيعتها- على وئام ناموسي مع أغراض أخرى.
استقرار رأس المفك البارزة داخل رأس المسمار المجوفة، كان سحريا بالنسبة لي، كان أحجية تكتمل كالمعجزة أمام عيني.
كنت أدير المفك الصليبة فيطاوعه المسمار في خضوع غريب، وأظل أراقب الاستدارات اللولبية على جسم المسمار وهو ينفك رويدا رويدا، بينما لولبيتها ودائريتها تخادعان بصري فيبدو المسمار كما لو كان يستطيل إلى ما لانهاية.
المفك الصليبة كان يشعرني أننا ناجح في جملة المهارات الذكورية المطلوبة من فك وربط وهدم وبناء وتصليح.
وعادة ما كنت أفكك به في التسعينيات، ترسانة الألعاب التي أحضرها لي أبي الثمانينيات ( الأطباق الطائرة والدبابات وباقي عدة الحرب..جنبا إلى جنب مع القطار المذهل الذي كنت امتلكه في طفولتي والذي أثق أنه ستدب فيه الروح يوما ما وينتفض من الصندوق المغبر الذي يقبع فيه، كي ينقلني إلى عالم سحري آخر).
وكانت سنو عمري تسرق مني رويدا رويدا، بينما لا أكن تجاه الأدوات-عموم الأدوات- سوى كراهية العاجز عن استخدامها..
كل الأدوات..سوى المفك الصليبة.
***
بالأمس فقط أمسكت الشنيور للمرة الأولى في حياتي..مستخدما لا مناولا.
أنا أمام الحائط، ومن المفترض أن أزج ب"البنطة" داخل الجدار كي أجري ثقبا محسوب العمق..كي نعلق ستارة ما أو شيئا ما من هذه الأشياء التي تعلق من وقت لآخر..لا أتذكر حقيقة.
التجربة مذهلة، كونية، صاعقة، كاسحة..بالنسبة لي (مهما بدا لك الأمر تافها أو مألوفا)
تحسست الجدار بيسراي وأغمضت عيني، كأني أستبين ذرات الحائط وأخترقها بروحي، كأني أفهم-دفعة واحدة- كيف هي متماسكة وكيف سأخلخلها أنا دون أن أدمرها، ودون أن أعتدي على كبرياء جدار من جدران منزلي الذي يؤيني.
في لمستي، ذبت في الجدار، أحسست بكل بكل مكوناته: طبيعتها، رائحتها، تاريخها، خواصها، تفاعلها، نقاط ضعفها، مشاعرها.
رفعت الشنيور، مستأذنا الجدار أن أشن عدواني المهذب عليه..وضغط إصبعي على زر التشغيل، وزمجر الشنيور في يدي زمجرته المتوعدة.
لامست الجدار برأس البنطة ملامسة رقيقة، ثم تركت له العنان.
كان يدور بانسيابية غريبة، كانت ذرات الحائط تتباعد من تلقاء نفسها، كان الثقب يغور في تناغم مدهش، كان الجدار يتجاوب معي، أكثر مما كان الشنيور يؤدي وظيفته.
أتأملني في وقفتي الثابتة، وذراعي في وضع عمودي، ممسكا شنيور يخترق الجدار، بثقة وتفاهم.
أقول لو كان فرويد هنا لكتب كتابا كاملا عن فقه الأجساد العمودية والاختراقات المنشودة..كان سيقول كلاما كثيرا لن يخرسه إلا هذا الشنيور وأنا أغرسه في عنقه كي يصمت إلى الأبد ويكف عن تصديعنا.
أنتهي من ثقبين في الجدار، بديا لي كما لو أنهما ذابا من تلقاء نفسيهما، وأتأمل الشنيور في يدي كأنما هو مسدس مائي من الطراز الذي كنا نلعب به في طفولتنا.
كانت قيادة طائرة ميراج أسهل بالنسبة لي من استخدام الشنيور..لكن في لحظة بعينها، لحظة التفاهم الكبرى مع الكون/الجدار..يتوائم الشنيور كأنه مفك صليبة باعث على الطمأنينة بأن كل شيء سيأخذ مجراه.

الأحد، 14 أكتوبر 2012

الرأسمالية وتدريبات يوم القيامة..في كواليس المؤسسة العالمية



أقف أمام ماكينة القهوة في الدور الثاني من البناية الضخمة التي تحتل المؤسسة العالمية التي أعمل بها نصفه.
أنتظر دوري في طابور قصير ملول، يخفي الواقفون فيه تذمرهم ،من الانتظار ومن بعضهم البعض، تحت غطاء من اللياقة الاجتماعية التي يمكن أن تكتسبها بالتدريب، ما لم تكن منقوشة في وجدانك.
هنا في هذه البناية، في هذه المؤسسة، في إسار الطابع العام الذي يحكم الأمور..يمكنك أن تعرف كل شيء حول عشرات العاملين معك في القاهرة، وحول الآلاف بامتداد العالم.
إنهم يشربون القهوة أو النيسكافيه في الموعد الفلاني عادة، ويتناولون غدائهم في موعد آخر ثابت، بانضباط فسيولوجي ومزاجي صارم.
لو كنت أحد محللي الأداء الوظيفي لرسمت شكلا بيانيا بالمنحنيات الثلاث: المزاج-الأداء-الرغبات الفسيولوجية، ولبدا الارتباط الوثيق بين ثلاثتهم.
أنا هنا أواجه نفس الضغوط التي يكابدها شاب في مثل سني يعيش في سان فرانسيسكو، يجلس على "لاب توب" مطابق للذي أعمل عليه، شكلا وإمكانات، ولا يفرقهما عن بعضهما البعض سوى ملصق الباركود.
كلانا يواجه أزمات تقنية واحدة، ويظل كابوسه المقيم، ألا يصل تقييمه الوظيفي للدرجة التي يريدها وفقا لمنجزاته المهنية، التي تحسبها عليه برامج إحصاء وتعقب وتحليل فائقة الدقة.
كل نقرة مني على الكيبورد، تعني أنني أتخذ قرارا ما في عملي، ما يؤثر في نهاية المطاف على درجة الإنجاز وجودته، كل نقرة مني، أشبه بمقامرة قدرية حول ما سيؤول إليه تقييمي الوظيفي بعد 3 شهور.
وحين تواجهني مشكلة تقنية ما، يهرع فورا فريق عالمي لتباحثها وحلها..
ينضم إلى نافذة دردشة شباب تقنيون عباقرة..من الصين وإيطاليا وأمريكا..ودول كثيرة بينهما على الخريطة.
كل مرة أواجه فيها مشكلة تقنية..ينضم إلي هؤلاء جميعا..فأحس أنني أتباحث إصلاح الكون نفسه، لا أخوض مجرد دردشة عملية حول عطب فني في حسابي العالمي داخل هذه الشبكة العملاقة.
جميعهم يواجهون كوابيس تقنية شبيهة بما أواجه، وكلهم تقريبا يخضعون لنفس الضغوط، ونفس المميزات..
كلهم يتلقون رسائل البريد الإليكتروني التبشيرية التي ترسلها الإدارة الأم..حول مستقبل أفضل للعاملين في هذا الكيان.
وكلهم لديهم أهداف مرحة على نحو ما..أو هكذا يمكنك أن تتخيل إذا ما تصفحت صورهم الشخصية المدرجة في ملفاتهم المتاحة على شبكة داخلية عملاقة.
أتخيل زميلا صينيا يدعى "لي" مثلا، ينتظر إنهاء وردية عمله كي يمرح مع زميلته..في حين يبدأ زميلي الإنجليزي "آدم" ورديته بعدما قضى نوبة مرحه مع صديقته..في مشهد درامي تلعب فيه خطوط الطول ودوائر العرض وفروق التوقيت، دورا فنيا فوق المدهش.
أخالني وقد صرت شبيها بأشباهي من سائر موظفي المؤسسة العملاقة حول العالم.
نمتلك نفس البطاقات الممغنطة التي تفتح أبواب المكاتب والطرقات..نمتلك نفس جهاز اللابتوب..ونفس "مولًد" كلمة السر النقال..ونفس الحقائب التي تحمل شعار المؤسسة..ونفس الأيقونات الصغيرة..
الجميع يتنقل داخل نطاق دخل شهري بعينه، يجعلنا نشتري ملابسنا وأحذيتنا من محال بعينها، بالأحرى من أفرع هذه المحال، بحيث نصير في نهاية المطاف محشورين داخل أزياء وتصميمات بعينها..
نفس الموظفين يشترون من نفس الأفرع بنفس الأسعار حول العالم..
ويعضد الأمر رغبة التشابه داخل الجماعة الإنسانية..
فيحتذى البعض "لوك" البعض الآخر..وهكذا نصير جميعا نسخا مستنسخة..
أنظر إلينا (ها قد صرت أحدهم وأقول "إلينا"!) من زاوية منظور الطائر..بينما نسير كالروبوتات الآلية..
نجلس على المكاتب البنتاجونية التكوين (خماسية الأضلاع كلها)..نشرب القهوة في مواعيد بعينها، فنذهب لدورات المياه في مواعيد متزامنة تقريبا، ويترافق أداؤنا الحيوي مع انبساطنا المزاجي..وفي نهاية اليوم، نصل لنفس الدرجة من الإرهاق، ويجتاحنا نفس القدر من التوتر..لننتظر في نهاية الربع السنوي، تقييما دقيقا، يرتكز على أرقام وإحصاءات وشهادات مدراؤك وزوملاؤك..ولسان حال تقريرك يقول "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا"..
لأول مرة أحس أن الرأسمالية تدربني على وقفة يوم الدين!