90s fm

الخميس، 24 فبراير 2011

لماذا قتلت أمن الدولة القط مشمش في سجن طرة؟ (من وثائق عاصمة جهنم)


في معتقل طرة، كان القط مشمش ينتقل بين زنازنة وأخرى، يتلقفه المعتقلون بحنو فائض وسعادة بالغة، كانت الأيدي تمتد تتحسسه بمودة صادقة، كان ثمة شيء ما أعمق في علاقة الطرفين ببعض.
كان مشمش عوضا وأنسا للبعض في عزلة الحبس الانفرادي، ومصدر دفء وسعادة للبعض الآخر ممن انتهت علاقتهم بالعالم الخارجي واعتقدوا أن حياتهم ستمضي للأبد في ظلمات المعتقل وأهوال التعذيب.
وكان من الطبيعي أن تتطور علاقة المعتقلين مع مشمش في مثل هذا الظرف النفسي الصعب الذي يعايشونه..في إعادة لواحدة من أدبيات العلاقة المركبة بين الإنسان والحيوان، في مشهد دقيق وفذ تبوح الطبيعة فيه بواحد من أرق أسرارها.
شيئا فشيء التفت المعتقلون أن مشمش قد يكون رسولا مثاليا بين الزنازين، فهو الوحيد الذي يتنقل بين الجميع ويلقى معاملة خاصة من كافة التيارات على اختلافها، ويبدو مصدر الإجماع الاستثنائي وسط طوفان من التشكيك والتخوين والتخويف (هذا أمن وذاك جاسوس).
ربطوا في عنق القط كيسا قماشيا صغيرا يبدو كما لو كان علامة تدليل من جانب المعتقلين لمشمش، الذي تتغاضى إدارة المعتقل عن الالتفات له أو لعلاقته بالمعتقلين..فمشمش مثل باقي قطط المعتقل يعمل على اصطياد الفئران..ولا ضير من أن يعتبره البعض واحدا منهم..أنت تتحدث عن معتقلين فقد بعضهم عقله تحت وطأة التعذيب وراح البعض يناجي حشرات السجن ويتحدث مع الجدارن.
لم يمض وقت طويل حتى تحول مشمش لأهم حلقة اتصال بين جميع الزنازين..يحمل رسالة من هذا لذاك، ويحمل توضيحا من هؤلاء لأولئك..كان مشمش نشيطا سريعا شقيا بهوجا ينبض بالطاقة والحيوية، وبدا من سلوكه الفسيولوجي المتغير أنه يدرك بطريقة ما طبيعة ما يفعله، وأهمية الدور الذي يقوم به.
ولخطأ، كان ضروري أن يحدث يوما ما، اكتشفت إدارة المعتقل طبيعة دور مشمش، وحين أمسكه ضابط أمن الدولة الشرس بين يديه وقرأ تلك الرسالة_آخر رسالة كانت_ لم يملك أعصابه..استشعر مشمش شيئا ما..ففر داخل العنابر والزنازين..لكن كانت الواقعة قد وقعت.
استدعت أمن الدولة فرقة عساكر التأديب، ثم بدأت مراسم الجحيم، دماء في كل الزنازين، وصراخ وبكاء..سحل وضرب..
وحين وصل الأمر لمشمش جاسوس المعتقلين المدرب وكائنهم اللطيف المدلل..كان الأمر واضحا حاسما من أمن الدولة: اقتلوه!

(القصة حقيقية تماما، وحدثت في نهاية التسعينات في سجن استقبال طرة العنبر (د)، والقصة وثقها والدي محمد الدريني وحكاها لي)

الأحد، 20 فبراير 2011

الميلاد 26..خيانة الفسيولوجي..أو ما أدعوه أمنية الساعة الرقمية




يبدو الأمر هذه المرة أشبه ببنيامين بوتون..الشكل والملامح يسيران في اتجاه عكسي مع العمر.
أقصى تقدير عمري حصلت عليه حتى الآن: عندك 19 سنة!
بل يبدو أن هناك تلازما أبعد وأعمق من مجرد شكل أقرب للطفولي، أسعى لتغييره من وقت لآخر نزولا على ضرورات العمل ولمتطلبات اجتماعية سخيفة، تدعم من موقفك لو كنت تبدو في السادسة والعشرين أكثر مما ستدعمه لو كنت تبدو في التاسعة عشر.

هناك شيء ما أعقد وأكثر تركيبا من أن يتم اختزاله في الشكل..أنا بالفعل، أرتد للوراء عمريا!

(جسم في السادسة والعشرين، شكل في التاسعة عشر، قلب في الرابعة عشر، أمنيات في الثامنة من العمر).
عيد ميلادي الفائت لم يكن سعيدا كالأربعة الذين سبقوه..كان فيه مسحة حزن طفيفة، لولا ضفيرة ضوء رأيتها تتغشاني في هذه الليلة فأدركت أني لازلت على خير.
لكني هذه المرة أحسني خفيفا لدرجة غير طبيعية،أحيانا أتخوف من أن أكون مجرد شبح يعتقد أنه لازال في قيد الحياة.
لا شيء سار كما خططت له ولا كما توقعته، فهمت الآن فقط كيف يسير القدر وكيف يرتجل وكيف عليك أن تتجاوب.
ضاعت ملابسي كلها مرتين هذا العام! وضاعت مكتبتي مرتين!
لكن الله عوضني ملابسا خيرا من ملابسي ومكتبة خيرا من مكتبتي..(مش بقولكم بقيت حاسس إني في الدار الآخرة).
لم أقص شعري منذ أكثر من عام، غيرت سكني (منفردا هذه المرة) ثلاثة مرات، تعلمت قليلا من الطهو، كثيرا من قيادة السيارات، ونذرا ضئيلا من اللغة الإيطالية، ومباديء عامة عن الموسيقى وكيفية العزف على الآلات الوترية، وتصفحت الكثير من مجلات الديكور والأزياء، ودرست_متعمقا_ تاريخ العسكرية المصرية، وعقيدة الدبلوماسية المصرية.
أحس كل شيء مختلفا، أود أن أساعد الناس جميعا، أن يذروني الله رياحا فتهب على كل بما تشتهي نفسه.
لقد تحققت هذا العام واحدة من أكثر الأمنيات إلحاحا في نفسي: أن أنام في سرير أقرب للصندوق، (راجع:
فصل من سيرة المكعب)، وهو ما حدث بالفعل، فسريري محاط بمكعب ينقصه ضلع واحد فقط، وأتقوقع بداخله كيف شئت متى شئت.
الأمنية التي تراودني، منذ الأمس، كطفل يتيم حالم : أن أشتري ساعة رقمية كاسيو!
لم؟ لا أعرف..فهل تعرف أنت؟

الخميس، 17 فبراير 2011

عقيدة باول..عقيدة طنطاوي..عن الجيش المصري


على خلفية انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد حرب الخليج الأولى 1991، صاغ كولين باول رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الأسبق ما صار يعرف فيما بعد ب"عقيدة باول"، وهي رؤية باول لدور الجيش الأمريكي في الحياة العامة بعد انهيار (موسكو).
وكانت الصياغة ردا على بعض المطالبات بتدخل الجيش الأمريكي لمواجهة الفساد الداخلي في الولايات المتحدة من عمليات غسيل أموال وتجارة مخدرات وخلافه، بعد الخواء الكبير (نفسيا قبل أن يكون استراتيجيا) إثر انهيار أكبر المنافسين.
عبر باول في رؤيته عن رفضه لزج الجيش في مثل هذه الأمور، تاركا إياها للشرطة، محددا أن الجيش ينبغي أن يقوم بحماية الولايات المتحدة وتنفيذ طموحاتها العسكرية_وفق استراتيجيات نفسية وحربية كاسحة_ تعلي من هيبة الولايات المتحدة وتضع واشنطن على عرش العالم دوما..وبلا منازع.
أسوق الملابسات السابقة في معرض الظرف الذي تتعرض له مصر الآن والذي تقاطعت فيه الأسباب لتسوق قدر مصر ليد "الجيش"..وهي يد بيضاء فيما أوقن، نزيهة بما يتواتر، حانية كما ثبت، خشنة في وجه آخرين لا تعلمونهم الله يعلمهم.
وفيما ينادي البعض على استحياء _يخذله، على ضعفه وهوانه، حماية الجيش للثورة_ بأن تعود القوات المسلحة أدراجها في أسرع وقت ممكن، وأن تترك المهمة للمدنيين الرائعين، أحسني مضطرا للاختلاف علانية.
فقد ألمح الجيش في أحد بياناته إلى أنه "يناشد" الجماهير العودة لمنزلها غير مستند على "سلطان القوة". وهو إلماح لإمكانية الجيش حسم كل شيء وبسرعة، لولا أن عقيدته هي حماية المصريين وليس توجيه رصاصه إلى صدورهم.
***
"لما نيجي نحارب إسرائيل هنحاربها بمين؟ بيكم إنتم..إنتم اللي هتدافعوا عن البلد دي وإنتم أساس الوطن ده"
كانت هذه هي كلمات اللواء إسماعيل عثمان رئيس قطاع التجنيد سابقا ورئيس قطاع الشئون المعنوية حاليا والرجل الذي اضطلع باديء الأمر بإلقاء بيانات الجيش.
كان هذا "التوضيح" من جانب إسماعيل، في خطابه لنحو 25 ألف شاب من الحاصلين على الليسانس أو البكالرويس أثناء تقدمنا لأداء الخدمة العسكرية في القوات المسلحة عام 2006، ورغم أن غالبية المتقدمين ساعتها حصلوا على تأجيل فإعفاء، إلا أننا بعد 3 ساعات من الحوار مع إسماعيل حول الجيش المصري وحول علاقتنا به وكيفية التحاقنا بصفوفه خرجنا على يقين تام أننا نتعامل مع مؤسسة تحترم إنسانيتنا وتقدر عقولنا، وتثمن منا درعا للوطن..وكان هذا الخطاب امتدادا طبيعيا لمحاضرات التربية العسكرية أثناء الدراسة الجامعية والتي دأب الضباط المدرسون من خلالها على تأكيد أننا إخوتهم وأبنائهم وأبناء أعمامهم ولسنا بنظرهم موضع اضطهاد أو استباحة مثلما يفعل ضباط العادلي قبح الله مواضعه حيا وميتا.
***
ومن هنا فإن "الباوليين" وإن اختلفت دوافعهم، على تشوشها وسوء قياسها التاريخي وبلادة استشرافها المستقبلي، في إعادة الجيش إلى ثكناته، يبدون بنظري لا يعلمون شيئا عن الجيش ولا عن السياسة ولا المجتمع.
أنا مع بقاء الجيش في الشارع تماما وإن طالت الأشهر إلى أن تتشكل خلال تلك الفترة علاقة جديدة بين المواطن والوطن يحس فيها المصري أن الشارع له وأن البنيان ملكه وأن الحق حقه، وأنه ليس من حق شرطي مهما كانت رتبته أن يهدده أو أن يأخذ حقه.
أن يحس أن "سلطان قوة" الجيش قاهر فوق أعناق الفاسدين الذين نهبونا، وأننا سنسترد حقوقنا من أكبادهم رغما واقتدارا، أن يحس أن ضباط هذا الجيش العظيم أقسموا الولاء لمصر وشعبها لا لغيرهم، وأنهم خط دفاعه الأخير ودرعه الذي لن يتبدد، وأن يرى محاكماتهم تباعا ليشفي غيظ قوم مؤمنين.
وربما كان الرهان على الجيش هو سر التفاعل الحميمي المدهش بين الجيش والشعب الذي لازالت وقائعه قائمة..ففي كل ميدان وبجوار كل دبابة، مواطنون يلتقطون صورا تذكارية، وفتيات يقدمن الزهور لعساكر الجيش وأمهات يقبلن الضباط والمجندين، أنا شخصيا يتم استيقافي بواسطة سيدات في نهاية الأربعينيات كي ألتقط لهن صورا بجوار أفراد الجيش.
الحالة كرنفالية رائعة، عاطفية جياشة، تليق بمشاعر متداخلة مضطربة، بعد مشهد التحرير على مدار 18 يوما والذي بدا فيه أقرب لرؤية توراتية، منه لأرض واقع، أو حتى للدراما وفنون الإخراج!
***
أتذكر لقائي بأحد الضباط المرموقين قبل أعوام بعيدة وهو يقسم لي أنهم لن يتركوا فاسدا في هذا البلد، وأنهم سيأخذون حقنا من لصوص السعادة وعصابة السطو على مستقبل الوطن، وأتذكر قناعته بأن مصر لأبنائها، لا لجيش ولا لشرطة ولا لنظام..فقط الجيش خط دفاع الشعب الأخير.
حضرة الضابط..صدقت وعدك وناصرت شعبك..لك التحية إن كنت ما تزال حيا..وعليك الرحمة إن كنت في جوار من لا يغفل ولا ينام.

الأربعاء، 16 فبراير 2011

الجزء الذي لازال بالتاسعة من العمر


لازلت أحتفظ في جزء مني بشخصي وأنا في التاسعة من عمري..


حين أنفرد بنفسي_ وما أكثر الانفراد وأقل الوحشة_ آمر بقية الأجزاء بالكف عن العمل، أطفيء كل الأنوار إلا نور هذا الجزء..ثم آذن له..انطلق.


أعود إلى هذه اللحظة تحديدا، وحيدا في الشقة، كل أفراد الأسرة غير موجودين..أتسلق الدولاب الكبير، ألتقط مجموعة الأدوات المعملية التي أهداني إياها أحد أصدقاء أبي لما عرف شغفي بالعلوم، أتناول المخبار المدرج، أملأه حبرا (أي شيء يصلح كي يبدو مادة كيماوية) وأضع في الدورق عصيرا(مادة أخرى)، ثم أذهب لأواني الزرع في البلكونة وأجري تجاربي على زهرة البوتس المسكينة : عصير وحبر..أو عصير على حبر..ثم أنتظر النتائج.


لا ينمو الزرع بصورة مباغتة كما كنت أتوقع..أيأس قليلا وأذهب للداخل كي أتخيل أمرا آخرا يمكنني أن أفعله.. ثم انطلق..


كان يومي مفعما بالتجارب : أشيد بيوتا وجسورا وأسلحة ومعامل ومشافي وقصورا..ولكل تفصيلة في القلب مرد.


وقبل أن يتوافد أفراد الأسرة على المنزل مرة أخرى..يعود كل شيء لمكانه، وأبدو أمامهم طفلا وديعا يستمتع ببرامج التلفزيون وقراءة المجلات المصورة.


حين آذن لهذا الجزء الآن بالانطلاق لا أحسني مثقلا بحقائق الحياة، أتخفف من قيودي قيدا قيدا..وأحس فورة في نفسي..أحسني طافيا..طيفيا..نورانيا..جميلا..فوق كل شيء.


أمارس هوايتي في سكب العصير والحبر على نبتة حياتي..يواجهني مدرائي: كف عما تفعله وافعل ما يتطلبه العمل!


حين يضيق خناق المجتمع علي..أرد بعنف..مستعدا لكل الخسارات..لكني لن أخسر هذا الجزء : أنا في التاسعة.


أترك العالم يضج بما يموج فيه، أتناول عسليتي المفضلة، أعيد تلاوة قناعاتي مرة أخرى، أحاكم كل الآخرين، بمنطق طفل في التاسعة..


فأسامحهم على الفور.


فليأخذوا هم عالمهم إلى حيث يريدون..ولأقبع أنا هنا..حيث تنتظرني مهام جسام.


(أنا الولد الذي سيغير وجه العالم)


إذا أردت أن تغير العالم معي: فاجلس وحيدا، وأطفيء كل الأنوار إلا نور الجزء الطفل..وامرح معه..