90s fm

‏إظهار الرسائل ذات التسميات وجع. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات وجع. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

ما لا يحتاجه حسام تمام..ونحتاجه نحن.



رحل حسام تمام، هو لا يحتاج الآن شيئا، في حين نحتاج نحن.
برحيل حسام سأفتقد أول من نشر لي مقالا، وأول من اصطحبني من يدي لجرنال، وأول من ساعدني-صحفيا- حين سافرت خارج مصر، وأول من تناول مخطوطتي الأولى، ليدفع بها لدار الشروق عساها تستحيل كتابا منشورا.
أفتقد أول من ارتكزت عليه في حياتي العملية، وأول حدد عيوبي المهنية بدقة واضحة( كان يقول العيب كأنه المدح!)، وأول من انحاز لي دون توضيح الدوافع.
زيارتي الأخيرة له في 6 أكتوبر الماضي في مستشفى الشيخ زايد كانت زيارة وداع لم ألتفت للإشارات الإلهية الكامنة فيها، كنت أرى وجهه فيها نيرا هادئا، رغم السرطان البشع الذي يجتاح خلاياه.
وكنت أشفق دوما من اللحظة التي أنا فيها الآن..أن أرثيه.
وأفهم قول شوقي في حافظ إبراهيم: قد كنت أوثر أن تقول رثائي..يا منصف الموتى من الأحياء.
تبتديء الزيارة دوما وهو مرهق من إثر المرض، لكنه يغير وضعية جلوسه-كل مرة- في أقل من 15 دقيقة، لينخرط في النقاشات المدبرة التي كنا نجرجره فيها، فيزدهر وينهض ويبدأ الحكي فلا ينتهي..
حقائق ومعلومات ومقابلات وكتب وقراءات وذكريات وأحاديث خاصة وأشعار وأحاديث وروايات وتفاسير..إعصار معرفي جارف هذا الرجل!
نتركه وقد استحال من صفرة المرض لحمرة الحماس..ونستأذن لنجيء بعد اسبوع أو اثنين.
دوما كان يشاكسني: حمادة ياعفريت!
يسألني: أخبار عبد الوهاب المسيري إيه؟
فنضحك سويا..يوميء من طرف خفي إلى حياتي العاطفية..يسألني هذا السؤال الكودي مذ تعمدت صداقتنا في 2004، وللكود واقعة عاطفية كانت تضحك كلينا حتى الإنهاك..لدرجة أنه أطلع الراحل عبد الوهاب المسيري على استخدام اسمه بصورة كودية للتعبير عن توصيف درجة من درجات العلاقات العاطفية..فرد المسيري بخفة دمه وسرعة بديهته وصفاء نفسه: أنا ممكن أتدخل شخصيا في الموضوع مش اسمي بس.
يضحك ثلاثتنا (اصطحبني لمنزل المسيري مرة، ورتب لي لقاء منفردا معه في منزله مرة، ورحل كلاهما عني، لأضطر-وما أقبح اللغة في هذا الموضع- أن أقرن حكايهما معي بقولي: ذات مرة).
أتذكر ملابسة المعرفة الأولى حين نشر لي مقالا في إسلام أونلاين، كنت طالبا جامعيا متدربا حينها، بعدما أعاد تحرير بعض أجزائه، الأمر الذي غير المعنى في بعض المواضع.
أرسلت له "إيميل" حاد: التعديلات غيرت المعنى بما لايتوافق مع ما أقصده، من فضلك: إما أن تعيد النص إلى ما كان عليه سابقا، أو أن تحذف اسمي من عليه، أو أن تحذفه مطلقا، ولحضرتك حق التعامل معي مرة أخرى من عدمه.
ضحك وأجرى التعديلات ثم عزمني على الغداء: سأجرى التعديلات لو لم يكن لصحة موقفك العلمي، فلأنك جدير بهذا..لو لم تدافع عن وجهة نظرك (أيا كانت) لما كنت احترمتك..ولو لم تكن بشجاعة أن تطلب حذف أول مقال ينشر لك في حياتك، لما كنا معا الآن.
كانت دوما لقاءاتنا مدموغة بطابع احتفالي، فهو يعزمني أو أعزمه (كان يعزمني هو أكثر بالطبع بموجب 13 سنة عمرية فرق تضعه دوما في تصنيف أخ أكبر).
وكل لقاءاتي معه ملحمية، دوما معه أصدقاء من المغرب أو لبنان أو السودان أو موريتانيا..دوما هناك أصدقاء من كل مكان في العالم، نجلس سويا وتروح الأحاديث وتجيء طوفانا من المعرفة والآراء، وكل الجالسين دوما يوقرونه ويحترمونه.
عهدته حادا في الحق، صارما في قيم المهنة، رجلا بالمعنى الحرفي للكلمة.
قال لي جملة تأسيسية في وعيي: الفيصل سيكون في قدرتك على التحليق خارج السرب..أن تنفصل وأن تغرد بمفردك..هذا هو تحدي حياتك..فقط عليك أن تمتلك الشجاعة.
ثم نظر إلى مدخل إحدى بنايات الصحف القومية التي نستقل المقهى المقابل لها: لو صاحبت بواب مؤسستك وكان صادقا معك،خير لك من أن تصاحب رئيس تحرير منحط.
كان دوما محل ترحاب وتقدير واحترام، لا ينال من غيبته إلا مجايليه من الحاقدين عليه، وكانوا من التفاهة بمكان بحيث يبدو كلامهم سخيفا سفيها..(وإذا أتتك مذمتي من ناقص..فهي الشهادة لي بأني كامل).
أتذكر بياتي معه ذات مرة في شقته-قبل أن يتزوج- وأنا أحاول إقناعه بمشاهدة فيلم أمريكي رومانسي : فكك من الإسلاميين بقى شوية يا أستاذ حسام.
-وريني ياحمادة ياعفريت.
يطلب إيقاف الفيلم في منتصفه ويسألني عن عن أحوالي العاطفية..أحكي وتبرق عيناه وتتسع ابتسامته..فيقول لي: ادخل نم أيها العاشق.
أستيقظ وأستأذنه في قرصنة بعض كتبه..أفاوضه كثيرا مفاوضات تؤول لصالحي..ويترك كتبه عن طيب خاطر وصفاء نفس.
يتناول كل شيء بملكة تحليلية نادرة.
كان المسيري يصفه لي بأنه استثنائي، وكان هيكل معجبا به لدرجة مدهشة.
اختار المسيري ثلاثة مقالات له وأرسلها لهيكل، الذي استقبل حساما في منزله، وأبدى ثلاثة ملاحظات نافذة لحسام، استأمنني عليها حتى اليوم. إن كانت تشي بشيء تشي بأن حسام عملاق وبأن هيكل ذكي ذكاء نادر.
وطنيا حسام كان لأقصى ما يتخيله عقل، كان يشتبك مع كل من يشكك في مصر حد الاقتتال، ويحلم بمصر غير مصر.
في السر كان يدبر مع بعض الأصدقاء دعم ترشيح مفكر مصري كبير لجائزة عربية كبيرة، فكان يصرف من جيبه الخاص على إرسال خطابات الترشيح للخارج، وحين يتم هو والفريق السري عمله..كنت أذهب إليه وآخذ منه المظاريف وأتوجه بها لأقرب نقطة بريدية..ويملؤنا الأمل في أن يفوز بها المفكر المصري العظيم..لأنه بحاجة ملحة إلى المال قبل التكريم!
ومثلما ترك كليتي الإعلام فالاقتصاد والعلوم السياسية ليستقر في كلية الآداب جامعة الإسكندرية..كان يحل من مكان لمكان طائرا مرتحلا..تنشر مقالاته الصحف العربي والإنجليزية والفرنسية، وتستضيفه الندوات والبعثات..وكان دوما متألقا بلا شبهة خفوت عابر حتى.
وعلى خلاف ما يبدو على مظهره الرجولي الصارم، كان ودودا لطيف المعشر يهوى النكات ويحفظ الشعر ويجيد اصطياد المفارقة.
وحين أجيء على نفسي وأكبح دموعا عاتيات لأكتب هذا، فأنا أكتبه لأننا بحاجة إلى أن نقول أن هنا بيننا كان صحفيا جيدا..كان بيننا شخصا لا يماري..كان بيننا إنسانا رائعا..ينبغي أن نتوقف لنثبت الحالة في تاريخنا..ولنقول أن كل قبح العالم يمكن أن يزول بشيء واحد جيد يفعله شخص واحد جيد..ينبغي أن نترك الحقيقة منشورة..كان بيننا شخصا رائعا بكل ما تنطوي الكلمة عليه من معان.
وأخيرا: ناقشته آخر مرة التقينا قبل إسبوعين ، حول العنوان المفترض لكتابه الذي كان على أبواب النشر، بعدما أطلعني على فصوله، واستمع لوجه نظري حول أمثل طريقة لتبويبه، فقلت له: ينبغي أن تكتب فصلا إضافيا فنظر لي ساعتها مبتسما وفي عينيه بريق خافت: مفيش وقت.

الاثنين، 6 يونيو 2011

اللحظات التي لم أعتقد أنها ستجيء


خبرتي ليست عميقة مع المرض فالوفاة، فضلا عن أن مشاهداتي قاصرة.

جدي يتعرض لنوبات قلبية من وقت لآخر طوال ما يزيد على 15 سنة..للدرجة التي لم يعد للمرض معنى خلالها..ولدرجة أنه حين مات لم أستوعب أنه مات، قلت لابد أنه سينهض كالعادة، وسنعود به للمستشفى بعد عام مثلا. وكان يستغرقني ساعتها مثال طائر الفينيق.

كنت أذهب لمنزله طيلة سنتين بعد وفاته، غير مستبعد أن أجده جالسا على كرسيه المفضل يقرأ "الأهرام" بطريقته الأقرب للهمهمة. وكنت أعتقد أنني لو رأيته لن أندهش أبدا، لأن "الموت" مفردة جديدة على عالمي، ولم أستوعب بعد كيف الموت يكون.

لابد أن الميت يختفي قليلا ويعود...هذا كل ما في الأمر، فلا يعقل أن يموت جدي-الذي أعرفه وأحبه- كما يموت "الآخرون" الذين نسمع عنهم من وقت لآخر..لابد أن ما يحدث لهم شيء مختلف تماما..لابد أن هناك أنواع مختلفة من الموت.

رحل جدي وأنا في الثالثة والعشرين، كنت قد بلغت من الكبر عتيا كي أفهم مثل هذه الحقائق، لكن التجارب (التمادي فيها أو القصور في التعاطي معها) تسبق السن لتحديد كيفية استيعاب هذه الأمور. وكما نسب لعليَ كرم الله وجهه (رأي الشيخ أحب إلى من جلد الغلام).

اليوم أجد صديقي مريضا، يجيئني صوته وئيدا مشوشا، وهو الذي ذرع الأرض أسفارا وملأها كتابة وتعاقد في كل طرف من أطرافها مع أحاسن الناس أصدقاء وخلانا.

مريض بحق، مرض بغيض من هذا الذي ينهش الإنسان رويدا رويدا، فتصاعد نفسه وتصاعد أنفس من معه حسرة وألما.

أتذكره قبل سبع سنوات، وقد كان أكثر عنفوانا، بينما نغزل صداقتنا المشتركة يوما بيوم وموقفا بموقف. أتذكر كل الأشياء الغريبة التي طلبت منه أن يجلبها لي من أصقاع الأرض التي كان يتناوب على زيارتها دوما، وأتذكر تفانيه في مساعدتي.

أذكره أخا أكبر، أمينا نزيها، مثقفا من هذا الطراز الأسطوري الذي يبدو على وشك الانقراض.

دماثة خلقه التي يطعمها من وقت لآخر ببعض الشتائم اللذيذة حين يتحدث عن النظام أو الإخوان أو السلفيين أو الكنيسة أو الأمريكان، اعتزازه المفرط بمصريته، رؤيته لمشروع إسلامي متكامل الأركان..ولكن بلا إسلاميين..خناقاته ومعاركه..وملابسه التي كانت تلائمه بصورة مدهشة.

مكتبته التي كنت أنهبها بصورة منهجية، كتاباته التي كنت أطلع عليها عادة قبل أن ينشرها، مشاكساتي له التي كان يحبها ويضحك لها من قلبه..عمق قلبه ..ويسألني من وقت لآخر: بقيت ليبرالي يا أحمد؟ بقيت يساري يا أحمد؟ بقيت من أهل السنة والجماعة يا أحمد؟.

أراجع تاريخنا المشترك-وللأسف أحفظه كاملا- فأدعو الله وفي القلب مرارة، أن يشفيه، وأن يقوم..وأحس أن الدنيا فعلا لا تساوي جناح بعوضة.

(كن فيها كأنك عابر سبيل)..وخير ما فيها صديق وفي.

الاثنين، 29 نوفمبر 2010

يوم رحلت الجدة


باختزال مخل بالمعنى: ماتت الجدة!

أتلقى الخبر فلا أستوعبه، جدتك فلانة ماتت.

"فلانة ماتت" اختزال يطوي، باستهزاء نادر، نحو سبعين سنة عاشتها الجدة، ويسخر من عشرات السنين الأخرى التي نتقاطع_نحن الأبناء والحفدة_ معها فيها.

ماتت كما كنت أتمنى منذ عشر سنوات:

وأنا بعيد..بعيد جدا.

لا أرى العيون الباكيات، لا أسمع الصراخ المكتوم، ولا أتورط في مراقبة النعش كي أتأكد أن الجدة ماتت، وأن الآخرين لا يخادعونني كالعادة.

يذهب معها تاريخ طويل من الانحياز لصفي_ حقا وعن غير حق، وتتبدد ذكريات_مشوشة بدورها_ عن طفولة قضيتها بكنفها أضع فيها القواعد الأولى لعالمي المتخيل، وأرقب كل شيء من طرف خفي.

لم أتورط في بكاء من أي نوع، ولم أفتش في ضميري عن السبب (نضج؟ جمود؟ ثبات؟ إيمان؟ تمرس في إدارك قواعد الحياة؟ بلادة؟).

أسترجع رائحة خبزها، رائحة شالها، مذاق غداء الجمعة وأنا بجوارها_دونا عن باقي الأحفاد_ أحتل مكانا في الصدارة يستمد مكانته من هيبة شاغلته.

كل الأطباء بنظرها يشبهون أحمد ابن بنتها.كل شيء جميل يمت إليه بصلة ما. كان بنظرها وضعا استثنائيا لا توجد المبررات الكافية لاستثنائه على هذا النحو.

ينقل لي أحفادها الأقل سنا( الجيل الذي يليني وأقراني) الأساطير التي تنسجها بشأني، والحكايا التي ترددها للجارات فخرا وكيدا، فرحا وارتكازا على مبادئ الجاهلية الأولى "أنا خير منكم وحفيدي خير من أحفادكم".

أترحم ترحما مشوشا، وأجزم بيني وبين نفسي: لن أذهب لبيتها كي أفتش عن طيفها تارة أخرى، لن أبذل نفسي حنينا على ما كان.

سأقلدها تماما في آخر عمرها..أتوهم أصوات الراحلين السابقين..تدعوني للحاق بهم. وسأسمع صوتها المبتهج "تتعشى يا ميشو؟". رحمها الله كانت تدعوني "ميشو" ولم أسألها عن السبب أبدا.

العمر قصير وإني لاحق بك عما قريب أو عما أقرب..ما أقرب الملتقى يا جدة؟

يرحمك الله..ويرحمنا..السلام أمانة عليك لأهلينا..لكل العظام الراقدة.

السبت، 25 يوليو 2009

السيدة


أيتها السيدة التي تتوقف النواميس لأجلها وتتعطل..أيتها السيدة التي لايسري عليها قانون لإله ولا لبشر..أيتها السيدة الجليلة النافثة من روحك في صدري.

أيتها السيدة التي يراني الآخرون في نومهم وصحوهم إذا توسلوا لها أن ترسلني إليهم..أيتها الأم الملكة والكيان المهيب والركن الأول.

أرجوك بحق مهابة طيفك الذي يشاغلني حين تتأزم الدنيا من حولي..أرجوك بحق ما تحبيني وبحق ما أحبك..أرجوك بحق السر الذي بيننا..ساعديني..ساعديني فأنا الآن أحتاجك أكثر من أي وقت مضي..

أسعفيني يا كعبتي وصلاتي..غيري النواميس لأجلي..دعيني أعش شجاعا..وأموت شجاعا..ثبتيني حين تتزلزل الجبال الصم وحين تخور السماوات السبع من فوق الناس..

هات علامتك التي أعتادها..دعيني أراك في وجهي حين أنظر في المرآة..واشف جرحي المؤرق..افعلي ياسيدتي..بحياتي بحياتي افعلي..افعلي..افعلي..