قال أوباما قبل عام في واحدة من خطبه الانشائية البديعة_وكل خطبه انشائية بديعة_أنه يتفهم غضب عدد من الدول وقطاعات كبيرة من العالم تجاه الولايات المتحدة الأمريكية،مشيرا بوضوح إلي موقف العالم الإسلامي من بلاده،وقال قولته التي أثارت جدلا في ذلك الحين.. "إن الغضب مفهوم".
يمكن اليوم بوضوح الرجوع إلي هذه الجملة المفتاحية لقراءة خطابه _الانشائي البديع_الذي ألقاه في جامعة القاهرة،والذي بدا من ثناياه أن أوباما يعتقد فعلا بأن الغضب مفهوم لكنه ليس بالضرورة "مبرر"!
من مقعدي في الطابق الثاني تحت قبة جامعة القاهرة،استمتعت كغيري بالخطاب الجريء الذي ألقاه الشاب الأسمر،وأمسكت نفسي أكثر من مرة متورطا في تصفيق حاد ،ملبيا نداء مشاعري التي داعبها الرجل بمهارة (آيات قرآنية_اسم ذكر النبي محمد مشفوعا بالصلاة عليه_امتداح الحضارة الاسلامية والاقرار بفضلها) لكن في النهاية الأمر لم أر جديدا،فها هو يعيد طرح حل الدولتين،لكن بصيغة أكثر لطافة وتهذيبا من لغة سلفه الغبي جورج بوش،وها هو يعيد لف البضاعة القديمة في صندوق أكثر أناقة.
لكن ينبغي ذكر عدد من الملاحظات:
1-بهذا الخطاب رفع أوباما سقف الحديث مع العالم الاسلامي إلي حد معقول ،فقد أبدي تفهما عميقا لمشاعر المسلمين ولطبيعة الزاوية التي ينظرون من خلالها إلي إلي سياسات الولايات المتحدة تجاههم،وهو ما يعد تطورا كبيرا في تاريخ الحديث بين الطرفين، مقارنة بانحياز رؤساء أمريكيين سابقين بصورة مطلقة لاسرائيل،دون محاولة تفهم كيف ينظر القلب والعقل العربي والمسلم إلي "القضية" وهو ما يؤسس_في ظني_لمرحلة جديدة من الوعي في الذهن الأمريكي،ولسقف أعلي،لاشك سيضيف_ولو بصورة تراكمية_ لصالح مستقبل "القضية".
2-الإحالات الضمنية التي شبه بها أوباما وضع النضال الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني بوضع السود تحت نير العبودية والتفرقة العنصرية لعشرات السنين في الولايات المتحدة أصابت من المتابع الصهيوني مقتلا،فقد أضفت علي القضية بعدا أخلاقيا_في نفس المواطن الأمريكي_وحملت الكفاح الفلسطيني بتراث مشرف لتجربة مثيرة،كما أنها تعيد صياغة طبيعة الصراع في الشرق الاوسط في اذهان الامريكيين الذي يتعاطفون من المغتصب الاسرائيلي.
لكنه من ناحية أخري انحاز لنموذج المقاومة الهاديء وألمح إلي أنه علي الفلسطينيين أن يسلكوا ذات الطريق الذي سلكه السود من أجل نيل حقوقهم(مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس مثلا).وهي قراءة مثالية لطبيعة الصراع في الشرق الأوسط،لا تقترب من الواقع بحال من الأحوال وتصب في صالح اسرائيل أكثر مما تصب في صالح الحق العربي والمسلم.
3-اعتبار المسلمين_كأفراد_ جزء من الحضارة الأمريكية ،فقد ساهم أفراد عديدون منهم علي مدار تاريخ أمريكا في صنع قراراتها وبناء أعلي بناياتها بل و خوص حروبها! وهي مقاربة تذهب إلي قراءة الوضع بصورة عكسية،فالمسلمون مساهمون،ولو بحصص صغيرة في رأس المال،ومن ثم فقد آن الأوان لتوزيع الأرباح بصورة عادلة وفقا للقواعد الرأسمالية الرشيدة،ولابد أن ينوب المسلمين من الحب جانبا.وأعتقد أن الإسلام_بصورة تاريخية مجردة_أسبق في وجوده من الولايات المتحدة وأكبر من حيث التاريخ والتجربة وعدد المعتنقين والقوة الاقتصادية من الولايات المتحدة نفسها،ومن ثم فالمقاربة متعجرفة بعض الشيء.
4-الاستشهادات القرآنية التي ساقها وألهبت مشاعر الحاضرين والسامعين،كانت متبوعة باستشهادت من الكتاب المقدس_ولا مشكل بالطبع في ذلك_ وكانت أيضا مشفوعة في ذات الوقت باستشهاد من التلمود! ومن ثم فإن الرجل يرضي جميع الأطراف _بصورة بهلوانية رشيقة_مع مراعاة الوزن النسبي الذي يقتضي استرضاء العالم المسلم.
5-في النهاية أنا متفاءل فلم تكن أروع طموحاتي تذهب إلي أن يتكلم رئيس أمريكي بهذه اللهجة الأقرب إلي الحياد ولا بهذه المفاتحة الأدني إلي الاعتذار.وحتي لو أكد الرجل في خطابه علي عداء بلاده للقاعدة فهو فصل_تلفيقي_برأيي لتجنيب العالم الاسلامي حمل "وزر" مغامرات تنظيم القاعدة.وهي مقاربة تصب في النهاية إلي دول ومحور اعتدال،و"عصابات" إرهاب!