باختزال مخل بالمعنى: ماتت الجدة!
أتلقى الخبر فلا أستوعبه، جدتك فلانة ماتت.
"فلانة ماتت" اختزال يطوي، باستهزاء نادر، نحو سبعين سنة عاشتها الجدة، ويسخر من عشرات السنين الأخرى التي نتقاطع_نحن الأبناء والحفدة_ معها فيها.
ماتت كما كنت أتمنى منذ عشر سنوات:
وأنا بعيد..بعيد جدا.
لا أرى العيون الباكيات، لا أسمع الصراخ المكتوم، ولا أتورط في مراقبة النعش كي أتأكد أن الجدة ماتت، وأن الآخرين لا يخادعونني كالعادة.
يذهب معها تاريخ طويل من الانحياز لصفي_ حقا وعن غير حق، وتتبدد ذكريات_مشوشة بدورها_ عن طفولة قضيتها بكنفها أضع فيها القواعد الأولى لعالمي المتخيل، وأرقب كل شيء من طرف خفي.
لم أتورط في بكاء من أي نوع، ولم أفتش في ضميري عن السبب (نضج؟ جمود؟ ثبات؟ إيمان؟ تمرس في إدارك قواعد الحياة؟ بلادة؟).
أسترجع رائحة خبزها، رائحة شالها، مذاق غداء الجمعة وأنا بجوارها_دونا عن باقي الأحفاد_ أحتل مكانا في الصدارة يستمد مكانته من هيبة شاغلته.
كل الأطباء بنظرها يشبهون أحمد ابن بنتها.كل شيء جميل يمت إليه بصلة ما. كان بنظرها وضعا استثنائيا لا توجد المبررات الكافية لاستثنائه على هذا النحو.
ينقل لي أحفادها الأقل سنا( الجيل الذي يليني وأقراني) الأساطير التي تنسجها بشأني، والحكايا التي ترددها للجارات فخرا وكيدا، فرحا وارتكازا على مبادئ الجاهلية الأولى "أنا خير منكم وحفيدي خير من أحفادكم".
أترحم ترحما مشوشا، وأجزم بيني وبين نفسي: لن أذهب لبيتها كي أفتش عن طيفها تارة أخرى، لن أبذل نفسي حنينا على ما كان.
سأقلدها تماما في آخر عمرها..أتوهم أصوات الراحلين السابقين..تدعوني للحاق بهم. وسأسمع صوتها المبتهج "تتعشى يا ميشو؟". رحمها الله كانت تدعوني "ميشو" ولم أسألها عن السبب أبدا.
العمر قصير وإني لاحق بك عما قريب أو عما أقرب..ما أقرب الملتقى يا جدة؟
يرحمك الله..ويرحمنا..السلام أمانة عليك لأهلينا..لكل العظام الراقدة.