أقف أمام ماكينة
القهوة في الدور الثاني من البناية الضخمة التي تحتل المؤسسة العالمية التي أعمل
بها نصفه.
أنتظر دوري في
طابور قصير ملول، يخفي الواقفون فيه تذمرهم ،من الانتظار ومن بعضهم البعض، تحت
غطاء من اللياقة الاجتماعية التي يمكن أن تكتسبها بالتدريب، ما لم تكن منقوشة في
وجدانك.
هنا في هذه
البناية، في هذه المؤسسة، في إسار الطابع العام الذي يحكم الأمور..يمكنك أن تعرف
كل شيء حول عشرات العاملين معك في القاهرة، وحول الآلاف بامتداد العالم.
إنهم يشربون
القهوة أو النيسكافيه في الموعد الفلاني عادة، ويتناولون غدائهم في موعد آخر ثابت،
بانضباط فسيولوجي ومزاجي صارم.
لو كنت أحد محللي
الأداء الوظيفي لرسمت شكلا بيانيا بالمنحنيات الثلاث: المزاج-الأداء-الرغبات الفسيولوجية،
ولبدا الارتباط الوثيق بين ثلاثتهم.
أنا هنا أواجه نفس
الضغوط التي يكابدها شاب في مثل سني يعيش في سان فرانسيسكو، يجلس على "لاب
توب" مطابق للذي أعمل عليه، شكلا وإمكانات، ولا يفرقهما عن بعضهما البعض سوى
ملصق الباركود.
كلانا يواجه أزمات
تقنية واحدة، ويظل كابوسه المقيم، ألا يصل تقييمه الوظيفي للدرجة التي يريدها وفقا
لمنجزاته المهنية، التي تحسبها عليه برامج إحصاء وتعقب وتحليل فائقة الدقة.
كل نقرة مني على
الكيبورد، تعني أنني أتخذ قرارا ما في عملي، ما يؤثر في نهاية المطاف على درجة
الإنجاز وجودته، كل نقرة مني، أشبه بمقامرة قدرية حول ما سيؤول إليه تقييمي
الوظيفي بعد 3 شهور.
وحين تواجهني
مشكلة تقنية ما، يهرع فورا فريق عالمي لتباحثها وحلها..
ينضم إلى نافذة
دردشة شباب تقنيون عباقرة..من الصين وإيطاليا وأمريكا..ودول كثيرة بينهما على
الخريطة.
كل مرة أواجه فيها
مشكلة تقنية..ينضم إلي هؤلاء جميعا..فأحس أنني أتباحث إصلاح الكون نفسه، لا أخوض مجرد
دردشة عملية حول عطب فني في حسابي العالمي داخل هذه الشبكة العملاقة.
جميعهم يواجهون
كوابيس تقنية شبيهة بما أواجه، وكلهم تقريبا يخضعون لنفس الضغوط، ونفس المميزات..
كلهم يتلقون رسائل
البريد الإليكتروني التبشيرية التي ترسلها الإدارة الأم..حول مستقبل أفضل للعاملين
في هذا الكيان.
وكلهم لديهم أهداف
مرحة على نحو ما..أو هكذا يمكنك أن تتخيل إذا ما تصفحت صورهم الشخصية المدرجة في
ملفاتهم المتاحة على شبكة داخلية عملاقة.
أتخيل زميلا صينيا
يدعى "لي" مثلا، ينتظر إنهاء وردية عمله كي يمرح مع زميلته..في حين يبدأ
زميلي الإنجليزي "آدم" ورديته بعدما قضى نوبة مرحه مع صديقته..في مشهد
درامي تلعب فيه خطوط الطول ودوائر العرض وفروق التوقيت، دورا فنيا فوق المدهش.
أخالني وقد صرت
شبيها بأشباهي من سائر موظفي المؤسسة العملاقة حول العالم.
نمتلك نفس
البطاقات الممغنطة التي تفتح أبواب المكاتب والطرقات..نمتلك نفس جهاز
اللابتوب..ونفس "مولًد" كلمة السر النقال..ونفس الحقائب التي تحمل شعار
المؤسسة..ونفس الأيقونات الصغيرة..
الجميع يتنقل داخل
نطاق دخل شهري بعينه، يجعلنا نشتري ملابسنا وأحذيتنا من محال بعينها، بالأحرى من
أفرع هذه المحال، بحيث نصير في نهاية المطاف محشورين داخل أزياء وتصميمات بعينها..
نفس الموظفين
يشترون من نفس الأفرع بنفس الأسعار حول العالم..
ويعضد الأمر رغبة
التشابه داخل الجماعة الإنسانية..
فيحتذى البعض
"لوك" البعض الآخر..وهكذا نصير جميعا نسخا مستنسخة..
أنظر إلينا (ها قد
صرت أحدهم وأقول "إلينا"!) من زاوية منظور الطائر..بينما نسير
كالروبوتات الآلية..
نجلس على المكاتب
البنتاجونية التكوين (خماسية الأضلاع كلها)..نشرب القهوة في مواعيد بعينها، فنذهب
لدورات المياه في مواعيد متزامنة تقريبا، ويترافق أداؤنا الحيوي مع انبساطنا
المزاجي..وفي نهاية اليوم، نصل لنفس الدرجة من الإرهاق، ويجتاحنا نفس القدر من
التوتر..لننتظر في نهاية الربع السنوي، تقييما دقيقا، يرتكز على أرقام وإحصاءات
وشهادات مدراؤك وزوملاؤك..ولسان حال تقريرك يقول "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم
عليك حسيبا"..
لأول مرة أحس أن
الرأسمالية تدربني على وقفة يوم الدين!