اكتشف أبي في وقت مبكرمن طفولتي إصابتي بعمى الألوان، كنت حينها في الصف الأول الابتدائي وبينما أنا منشغل برسم علم مصر ،بموجب تكليف مدرسي سخيف من مدرسة الرسم، لاحظ أبي أني رسمت العلم باللون البني بدلا من الأسود.
ومن هنا بدأت أعراض اختلاط الألوان وعدم تمييزي لها تظهرعلي تباعا، ويوما عن يوم اتضح لي المشهد كاملا ، وأدركت الألوان التي يشق_بل ربما يستحيل_ على تمييزها، وحاولت قدر المستطاع تجنب الاحتكاك بها.
سبب لي خلط الألوان بعض الحرج الاجتماعي في بداية الأمر، لكنني بعد ذلك لم أعد آبه..
مرحى خالي! أنت تميز بين الأصفر والأخضر بسهولة؟ هذا سيدخلك الجنة حتما.
أهلا عمي! أنت تميز بين اللبني والسماوي؟ هذا سيجعل حياتك أسعد.
أهلا جاري! أنت لا ترتبك حيال البني المحروق والأحمر الغامق؟ ستفوز بجائزة نوبل.
أهلا زميلي! أنت تستطيع تمييز اللون "الموف" بسلاسة؟ سيقع الجميع في عشقك وستنجح في عملك وتبني فيلا في الإسماعيلية.
حسنا كلكم معشر الأصحاء بصريا أناس ممتازون..هل يريد أحد أن يقول لي شيئا آخر؟
لم يعرقل تشوش "الفوشيا" في ذهني تحصيلي الدراسي، ولم أشعر بنقص في الوجود لأن "الأبيض" هو أوضح الألوان بالنسبة لي..ما لم يكن مائلا لأن يكون سكريا.
التففت على الأمر الواقع، وتعلمت أن الأسود المنطفئ (في عيني) هو في عيون الآخرين يدعى "البني"، وأن ما أراه "أخضر" هو بالأحرى زيتوني أو "بيج" غامق، وأن هناك معادلة شبه ثابتة يمكن من خلالها تحديد اللون، وفقا للقانون العام الذي اتفق الآخرون عليه.
وفي أحيان أخرى وضعت لنفسي قرائن يمكن أن أستدل بها في عملية تحديد اللون، فهذا اللون يشبه الشاي بلبن أو ذلك يطابق لون جلد الفيل.
عممت المعادلة وتوسعت فيها حين أدركت أن فهمي لمعظم الأمور يشوبه ارتباك واضح، فحين يقول لي أحدهم (**&&%$$###$) فهو لا يحاول نصحي..هذا معناه أنه يحاول حرق دمي لا أكثر.
وحين تقول إحداهن : (*&$%#@#$) فهي لا تعني أنها تتفهم ما أقول، هي فقط ترمي إلى أنها مضطرة للانصراف الآن.
كل شيء_مع خلل الإدراك الشامل الذي أعاني منه_ أصبح خاضعا لمعادلة الترحيل، ترحيل اللون لدرجة أخرى، أو فهم الكلام على مستوى أبعد، أو تأول الأمور بصورة مغايرة.
لذلك حين دخلت المطعم الهادئ الذي أتناول به عشائي ،من وقت لآخر، وطلبت الكثير من المعجنات وأكواب الشاي، فهمت أنني أقول لنفسي وللكون من حولي أنني أريد حياة أكثر هدوءا.
هذا ما توصلت بعد أن طبقت معادلة أكل المعجنات وشرب الشاي..فقط تم ترحيل/ترجمة الرغبة.