كان مشمش عوضا وأنسا للبعض في عزلة الحبس الانفرادي، ومصدر دفء وسعادة للبعض الآخر ممن انتهت علاقتهم بالعالم الخارجي واعتقدوا أن حياتهم ستمضي للأبد في ظلمات المعتقل وأهوال التعذيب.
وكان من الطبيعي أن تتطور علاقة المعتقلين مع مشمش في مثل هذا الظرف النفسي الصعب الذي يعايشونه..في إعادة لواحدة من أدبيات العلاقة المركبة بين الإنسان والحيوان، في مشهد دقيق وفذ تبوح الطبيعة فيه بواحد من أرق أسرارها.
شيئا فشيء التفت المعتقلون أن مشمش قد يكون رسولا مثاليا بين الزنازين، فهو الوحيد الذي يتنقل بين الجميع ويلقى معاملة خاصة من كافة التيارات على اختلافها، ويبدو مصدر الإجماع الاستثنائي وسط طوفان من التشكيك والتخوين والتخويف (هذا أمن وذاك جاسوس).
ربطوا في عنق القط كيسا قماشيا صغيرا يبدو كما لو كان علامة تدليل من جانب المعتقلين لمشمش، الذي تتغاضى إدارة المعتقل عن الالتفات له أو لعلاقته بالمعتقلين..فمشمش مثل باقي قطط المعتقل يعمل على اصطياد الفئران..ولا ضير من أن يعتبره البعض واحدا منهم..أنت تتحدث عن معتقلين فقد بعضهم عقله تحت وطأة التعذيب وراح البعض يناجي حشرات السجن ويتحدث مع الجدارن.
لم يمض وقت طويل حتى تحول مشمش لأهم حلقة اتصال بين جميع الزنازين..يحمل رسالة من هذا لذاك، ويحمل توضيحا من هؤلاء لأولئك..كان مشمش نشيطا سريعا شقيا بهوجا ينبض بالطاقة والحيوية، وبدا من سلوكه الفسيولوجي المتغير أنه يدرك بطريقة ما طبيعة ما يفعله، وأهمية الدور الذي يقوم به.
ولخطأ، كان ضروري أن يحدث يوما ما، اكتشفت إدارة المعتقل طبيعة دور مشمش، وحين أمسكه ضابط أمن الدولة الشرس بين يديه وقرأ تلك الرسالة_آخر رسالة كانت_ لم يملك أعصابه..استشعر مشمش شيئا ما..ففر داخل العنابر والزنازين..لكن كانت الواقعة قد وقعت.
استدعت أمن الدولة فرقة عساكر التأديب، ثم بدأت مراسم الجحيم، دماء في كل الزنازين، وصراخ وبكاء..سحل وضرب..
وحين وصل الأمر لمشمش جاسوس المعتقلين المدرب وكائنهم اللطيف المدلل..كان الأمر واضحا حاسما من أمن الدولة: اقتلوه!
(القصة حقيقية تماما، وحدثت في نهاية التسعينات في سجن استقبال طرة العنبر (د)، والقصة وثقها والدي محمد الدريني وحكاها لي)