خبرتي ليست عميقة مع المرض فالوفاة، فضلا عن أن مشاهداتي قاصرة.
جدي يتعرض لنوبات قلبية من وقت لآخر طوال ما يزيد على 15 سنة..للدرجة التي لم يعد للمرض معنى خلالها..ولدرجة أنه حين مات لم أستوعب أنه مات، قلت لابد أنه سينهض كالعادة، وسنعود به للمستشفى بعد عام مثلا. وكان يستغرقني ساعتها مثال طائر الفينيق.
كنت أذهب لمنزله طيلة سنتين بعد وفاته، غير مستبعد أن أجده جالسا على كرسيه المفضل يقرأ "الأهرام" بطريقته الأقرب للهمهمة. وكنت أعتقد أنني لو رأيته لن أندهش أبدا، لأن "الموت" مفردة جديدة على عالمي، ولم أستوعب بعد كيف الموت يكون.
لابد أن الميت يختفي قليلا ويعود...هذا كل ما في الأمر، فلا يعقل أن يموت جدي-الذي أعرفه وأحبه- كما يموت "الآخرون" الذين نسمع عنهم من وقت لآخر..لابد أن ما يحدث لهم شيء مختلف تماما..لابد أن هناك أنواع مختلفة من الموت.
رحل جدي وأنا في الثالثة والعشرين، كنت قد بلغت من الكبر عتيا كي أفهم مثل هذه الحقائق، لكن التجارب (التمادي فيها أو القصور في التعاطي معها) تسبق السن لتحديد كيفية استيعاب هذه الأمور. وكما نسب لعليَ كرم الله وجهه (رأي الشيخ أحب إلى من جلد الغلام).
اليوم أجد صديقي مريضا، يجيئني صوته وئيدا مشوشا، وهو الذي ذرع الأرض أسفارا وملأها كتابة وتعاقد في كل طرف من أطرافها مع أحاسن الناس أصدقاء وخلانا.
مريض بحق، مرض بغيض من هذا الذي ينهش الإنسان رويدا رويدا، فتصاعد نفسه وتصاعد أنفس من معه حسرة وألما.
أتذكره قبل سبع سنوات، وقد كان أكثر عنفوانا، بينما نغزل صداقتنا المشتركة يوما بيوم وموقفا بموقف. أتذكر كل الأشياء الغريبة التي طلبت منه أن يجلبها لي من أصقاع الأرض التي كان يتناوب على زيارتها دوما، وأتذكر تفانيه في مساعدتي.
أذكره أخا أكبر، أمينا نزيها، مثقفا من هذا الطراز الأسطوري الذي يبدو على وشك الانقراض.
دماثة خلقه التي يطعمها من وقت لآخر ببعض الشتائم اللذيذة حين يتحدث عن النظام أو الإخوان أو السلفيين أو الكنيسة أو الأمريكان، اعتزازه المفرط بمصريته، رؤيته لمشروع إسلامي متكامل الأركان..ولكن بلا إسلاميين..خناقاته ومعاركه..وملابسه التي كانت تلائمه بصورة مدهشة.
مكتبته التي كنت أنهبها بصورة منهجية، كتاباته التي كنت أطلع عليها عادة قبل أن ينشرها، مشاكساتي له التي كان يحبها ويضحك لها من قلبه..عمق قلبه ..ويسألني من وقت لآخر: بقيت ليبرالي يا أحمد؟ بقيت يساري يا أحمد؟ بقيت من أهل السنة والجماعة يا أحمد؟.
أراجع تاريخنا المشترك-وللأسف أحفظه كاملا- فأدعو الله وفي القلب مرارة، أن يشفيه، وأن يقوم..وأحس أن الدنيا فعلا لا تساوي جناح بعوضة.
(كن فيها كأنك عابر سبيل)..وخير ما فيها صديق وفي.
هناك 4 تعليقات:
:(
كلمات أشبه بنبض القلب أحييك أيها المتأمل الحانى الباكى المخلص أتمنى أن نرى لك إنتاج قصصى
ربنا يشفيه؛ و يرجع يملأ الدنيا نشاطا؛
دعواتنا له من غير مانعرف اسمه؛ فقط سنقول"اللهم اشف صديق صديقنا" وربنا يتقبل دعائنا؛ ؛
إسمح لى ان أسجل إعجابى بشعارك "التدوين أفيون الشعوب" فهو مشوق و جذاب لدرجة أبقتنى فى مدونتك التى مررت بها بالصدفة لوقت طويل
أرجو أن يشفى ألله صديقك و ما هذا على ألله ببعيد
الموت الفعلى أو المحتمل يثير فى النفس تأملات كثيرة و لكن فى النهاية الموت ليس أسوأ ما قد يحدث للإنسان فنحن نؤمن بالحياة الأخرى
و لكنه بالتأكيد أسوأ ما يحدث لمحبيه و أصدقائه أن يحرمهم الموت منه
هذه فكرة ناقشتها فى إحدى قصصى و كان رد فعل البعض عليها غريبا رغم أنها تبدو لى بديهية
أرجو أن يشفى ألله صديقك و لا تتعرض لمواجهة هذا الإحتمال
تحياتى
إرسال تعليق