90s fm

الأحد، 20 نوفمبر 2011

عبد المنعم رياض تحرير--زيارة ليست أخيرة (لماذا بكى الأزهري هكذا؟)



مفتتح: وقد يهون الزمان إلا ساعة..وقد تهون الأرض إلا موضعا
أقف لليوم للمرة رقم كم في نفس النقطة ؟ لا أتذكر..
من 28 يناير، ل29 يونيو، ل20 نوفمبر..نفس البقعة المسودة من الأرض على بعدة عشرة مترات من مطعم هارديز..
أثر القنابل والقصف سواء..أثر الحطام متشابه حد التطابق.
نفس النقطة التي أبكي عندها كل مرة..تخنقني عبرة الغاز المسيل للدموع وأحس شيئا حارقا في حلقي، بعد أقل من عشر ثوان من استنشاق رائحة أقرب للخل النفاذ.
دمعت عيناي دمعا هينا كأن المشهد يعيد نفسه بصورة لا نهائية التكرار..
وبالقرب مني شيخ أزهري في مقتبل الثلاثينات، يرتدي زيا دينيا رخيص الثمن، رديء الحياكة، أكبر من مقاسه بنحو 20 كيلو جرام يحتاج أن يزادادها كي يملأه.
بدا لي الأزهري في مرته الأولى في الميدان، زيارة بدت استطلاعية ذات فرحة استكشافية فلكلورية بريئة..(فلنر التحرير هذا!)
قطع 4 مترات قادما من خلفي (كنت أراه بينما أشيح بوجهي للخلف متقيا-لاشعوريا-رائحة الغاز الاجتياحية) إلى أن وقف بجواري، وبينما أستدير للخلف كي أعاود الاستناد على بعض الأصدقاء شبه المنهكين بدورهم، كان الأزهري قد قطع شوطا أطول بينما عيناه شاخصتان..
بدا لي كأنه على حافة جبل، وقد قرر المشي بلا نهاية إلى أن تستقبله قوانين الجاذبية وتتعامل معه عند النهاية..كان سيره في اتجاه مصدر القصف، كأنه سير المحتوم أجله.
تشممت كم قميصي وكم البول أوفر (أحرص على تعطير هذا الجزء بكثافة في المعتاد لأنني أتشممه طوال اليوم تنسما للروائح الجميلة، ومجالدة للتلوث)..بينما_بعد أقل من دقيقة_ قد قرر الأزهري العودة وفي عينيه دموع ثاخنات..تقطر عيناه الدمع قطرا، ولا ينساب على وجنته انسيابا.
لم أدر: أهو العرض الفسيولوجي؟ أم هو القرار الشخصي بالبكاء؟
بدا لي وعيناه تهميان، كأنه طفل وديع، بدا وقد ارتد عشرين سنة للخلف، أراه طفلا بزيه الأزهري ينحشر وسط رفقاء قريته في طريقه للمعهد الديني، بينما يتهددهم أحد الشيوخ بخيرزانته التي قدت من سقر: ما لم تحفظ..سأنحرك بخيرزانتي هذي.
أتحلل من خيط الأزهري الذي استغرقني وأتأمل الميدان من حولي: هنا كنت أقف مع أحمد سمير وطلال في السادس من فبراير، وهنا كنت أجتاز الحشود مع حسين في العاشر من فبراير، وهنا كنت أقف جوار سهى في التاسع والعشرين من يونيو.
هنا وقع محمد شهيدا، وهنا أصيب صديق لي...
يتسع المشهد، وتتداخل الذكريات..فالطريق الذي أقطعه لعملي يوميا، يبدأ من ماسبيرو فعبد المنعم رياض، وصولا لجاردن سيتي مرورا بالتحرير..
في هذه المساحة تحديدا، أحس رهافة خطوتي وخجلها..هنا أقف حيث دهست المدرعات شهداء الأقباط، وهنا أمر حيث سقط مينا دانيال..
أصل للتحرير لأتذكر محمد (هو في درجة ابن عمي تقريبا، وقد التقيته مرات في الصغر بينما يحفظني القرآن، ومرات في الكبر بينما نختلف حد الاشتباك نظرا لانتمائه التنظيمي للإخوان، وفي كلتا الحالتين كان ودودا مهذبا أقرب لشهيد منتظر فعلا)..وأقول: هنا سقط محمد برصاص غادر في الثامن والعشرين.
تستحيل الأماكن لبقع سوداء وحمرا ولا لونية..
سوداء: دوما مفحمة بالمسحوقات الناتجة الأثر على ضرب القنبلة بيدي الشاب الأسمر داخل عربة أمن غادرة.
حمراء: بلون دماء سالت، لون نسيج الدم اللزج الملمس، لونُ مسفوحٌ ينطق بالغبن وبالغدر، ويبشر أن ملائكة الله على مقربة تشهد أن القادم هذا..رواح نحو الجنة، نحو قباب النور ونحو الصديقين ونحو الله ليسجد تحت العرش يبث أنينا نحو الخالق يشكو قباض الأرواح الغاشم ذا الرصاصات وذا القنبلة وذا السير الأسود على كتفيه يضم أدوات الشر المثلى.
لا لونية: لأن اللون يكف عن الإيضاح إذا كان الشر يفوق المعقول الأقصى.

ليست هناك تعليقات: