تلبد سماء التحرير أدخنة غاشمة، يختلط فيها الغاز المسيل، بأبخرة الحرائق، بغبار الأرض، ببقايا حطام متناثر.
وفي سكون وسكينة، يقف بائع بطاطا على مدخل الميدان، تتصاعد أبخرة عربته في "أنزحة" ظريفة، فلا تعلو فوق رأسه مسافة المترين، في حين تبدو داخل تركيب المشهد ككل، لمن ينظر إليه من مسافة تزيد على ثلاثة مترات، كأنها ملتحمة بسحب العدوان الذي تشنه الشرطة، تشابكها وتشاكسها في لا معقولية مدهشة.
وعلى دراجة بخارية مسرعة، يجيء شاب أسود الشعر منهك الملامح فاقد الوعي، إثر استنشاق مكثف للغاز، فيحاول معتصمون إسعافه بوصفات الخميرة المذابة وبرش الماء، وبدلق البيبسي والخل وماشابه من وصفات.
لينقسم المشهد:
شباب
بطاطا
دخان بريء
خميرة
خل
في مواجهة غير عادلة ولا متكافئة مع:
رصاص
قنابل
غاز مسيل
مدرعات
دبابات
سترات عسكرية وخوذات لجنود بلا ملامح
يبدو الأمر كأنه صراع بين الطبيعة والميكنة الباطشة..بين جماهير لا تمتلك موازنات أسطورية وبين أجهزة ووزارات ذات ميزانيات لا يعلم أصفارها إلا الله وحده.
يبدو دخان البطاطا البريء جسورا في اشتباكه مع قنابل الغاز الأمريكي..يبدو ملمح الشاب فاقدا الوعي أكثر إنسانية من السترة العسكرية السوداء والخوذة الجهوم..تبدو حجارة الأرصفة (المستخدمة في أغراض التراشق الوقائي) وثيقة الصلة بالطبيعة ضد رصاص الغدر والخرطوش الفاجع الأثر..تبدو وجبة البطاطا الزهيدة أكثر إنسانية ومرحا وقربا للحياة من "تعيين" الكتيبة المقاتلة على الضفة الأخرى.
يستحيل الأمر جملة واحدة إلى صراع بين الطبيعة وأبنائها..إلى صراع مع الميكنة وصاحب رأسمال شرائها..وصاحب القرار المتحكم فيها.
بين المستوطنين الأصليين للأرض..وبين المحتلين الغاشمين الذين يريدون فرض سيطرتهم.
كان الجميع يتأمل: قنبلة غاز ب50 دولار..يبطل مفعولها خميرة مفروكة ب50 قرشا!
القنبلة/الآلة والدمار والعدوان والمال..تنهزم أمام الخميرة/الطبيعة/ والمبلغ الزهيد الذي ينحدر بعملية الشراء (ذات الأبعاد المعقدة وفق قوانين السوق الحديثة) إلى شيء أقرب للمقايضة في عصور ما قبل "الزمن الأمريكي" وقنابله وأدوات إبادته و"الشركات عابرة الجنسيات".
كان المسيري رحمه الله يذهب إلى أن الانتفاضة الفلسطينية..استدعت انتباه العالم-لاواعيا- لأنها صراع بين الحجارة/الطبيعة..وبين الآلة الإسرائيلية الغاشمة.
وأنا أرى طرفا من هذا فيما يحدث..