رسالة المواطن 7774
في المعتقل، حمل أبي لقب "المعتقل
26"، وهي تقنية نفسية معروفة، درستها في مادة العلوم السياسية ( فصل الحرب
النفسية) في سنتي الجامعية الأولى..استبدل اسم سجينك برقم، اختزل وجوده كله في
هذا الرقم، دعه ينسى اسمه، جرد ذاته من ذاته، أنسه ملامح نفسه، دعه يعتقد أن وجوده
في هذا الكون لا يعبر عنه إلا هذا الرقم..باعد المسافة بينه وبين إدراكه لذاته،
فهو ليس محمد ولا هانيء ولا جون ولا آدم..هو هذا الرقم فحسب..ولم يكن أحد ينادي أبي بغير : 26!
( ربما لأجل هذا أناديه لا شعوريا بكل الألقاب التعريفية الممكنة له مخافة أن يكون قد نسى شيئا ما، رغم أن تكوينه النفسي أصلب بكثير من أن يقع في هذا الشرك، فتارة أقول له : أبو أحمد وتارة أبو مازن وتارة أبو حيدر، وأحيانا يا محمد! هكذا بتخفيف لا يأباه هو كشخص كتواضع ولطيف المعشر)
الآن، وقد قطعت بعد سن الرشد 6 سنوات كاملة،
متعاملا مع الدولة المصرية (مباركها ومرسيها، وبينهما مجلسها العسكري)، أستطيع أن
أقولها قرير العين : هذه ليست دولة وهذا ليس وطنا، هذه لوحة رقمية كبيرة وشاشة
معلومات عمياء، هذه الدولة تدركني فحسب كرقم بطاقة ورقم تأمين وكود وظيفي، وباركود
لعين يختزل كل هذا عني.
يوما ما لم أحس أن علاقتي بالدولة علاقة في
اتجاهين، هي مجرد علاقة تجاه مواطنها الحائز على رقم البطاقة الفلانية أو الرقم
التأميني الفلاني ورقم الإعفاء من الخدمة العسكرية الفلاني..كل إدراكها لي ينحصر
في دفعي المنتظم لضرائب الدخل وتسديدي لمستحقات الدولة لدى استخراج أي ورقة
رسمية..
ذهنية الدولة نفسها تتعامل معي على أنني "مصدر
مشاكل محتمل"..كمواطن مشاكس من الممكن أن يقترف جرما مروريا ما، عليه أن
يراجع غراماته الافتراضية لدى تجديد الرخصة..أو كشخص متمذهب سياسيا على غير ما
يذهب إليه النظام، سواء عصابة مبارك أو جماعة مرسي ( وإن كنت نذر دولة أمن الأخير
لم تلح بكامل طاقتها بعد)..
كنت أتلقى النصيحة في كل سفر: اهرب بعيدا عن
مبنى السفارة المصرية!وبخيالي الجامح كنت أتخيل دوما جماعة أبي
سياف وهي تخطفني، أو تنظيم القاعدة وهو يحتبسني في كهف أفغاني لطيف، أو إف بي آي
وهي تحتجزني في الدور ال14 تحت سطح الأرض وتستجوبني (معصوب العينين) : ما علاقتك
آهميد بيشايخ آبو آبدوالله الماسري؟
كنت أتخيل نفسي مخطوفا ومحتجزا ومعلقا..وعلى
الناحية الأخرى على الهاتف السفير المصري ردوده واحدة..لن يدفع فدية استردادي من
أي تنظيم إجرامي..بينما سيقول لهم على الفور في إف بي آي: اتخذوا الإجراءات الحمائية
اللازمة معه..أنتم تعرفون جهودنا لمحاربة المتطرفين..نحن نعتذر لكم عن هذا..
كل ما تراه الدولة المصرية أنني مصدر مشاكل
محتمل: تريد حجب المواقع الإباحية لأنني منحط سأترك عملي وعلاقاتي الإنسانية
وأتفرغ لمشاهدة أفلام البورنو..لذلك "الأخ الأكبر" يعرف مصلحتي أكثر مني
وسيحجبها..وتفرض إجراء "فيش وتشبيه" _تتلاشى
قيمته كل 3 أشهر تلقائيا- إذا ما حاولت العمل في مكان جديد..لأنني بالضرورة قد
أكون قد ارتكبت جرما ما في أحد فصول السنة الأربعة.
وشركات الهواتف المحمولة تسألني لدى إتمام
تفعيل خط عن اسم جدي لأمي! (اسم أبو أم حضرتك إيه؟)..
يذهب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى أن
الدولة تنظيم عصابي كبير ينشيء كيانات العد والإحصاء، ويحرص على إدراج المواطنين
في مشافي ومدارس وسجلات، بغرض إحكام السيطرة وإدراك حجم "النهيبة". الدولة فحسب-وفقا لفوكو- مجرد تنظيم عصابي يحسب
الطاقات الانتاجية ل"عدد" المواطنين، ويحسب أنفاسهم وممتلكاتهم والضرائب
المستحقة منهم..كي يسهل حسبان المكسب الكلي وتحسينه لصالح العصابة الحاكمة!أتخيل القابع يحكم هذا البلد، وقد استحلنا
أمامه على شاشة كبيرة، إلى مجرد شجرة عائلية مرقمة..هذا المواطن 876876 حفيد
المواطن 878 وأبن أخت الهارب من العدالة 92923..
أخالني وعامل بريد تعس يجيء لأبي يسلمه 4
آلاف جنيها نظير قضائي نحبي على المحور أو الطريق الدائري..أقول بيني وبين نفسي:
لو باعني جزار بالكيلو سيكون ثمني أكثر من 4 آلاف جنيها!
في نقابة الصحفيين، الدولة الأصغر، أحمل
الرقم 7774، وهو الرقم الوحيد الذي أحفظه ضمن سلسلة الأرقام التي أحوزها بوصفي مواطنا
مصريا وتختزل علاقتي بالوطن، فهو الرقم الأقصر والأكثر دلالة (هذه مهنتي وهذا
وجودي وهذا هو كودي الاختزالي المحبب! وبالمصادفة يطابق المقطع الأخير من رقم
هاتفي القديم!)..لو قضيت نحبي، أتخيل أبي بعد شهر وهو في قاعة
ضخمة من قاعات نقابة الصحفيين كي يتسلم درع ما (شهيد الصحافة أو أي هراء بلاغي من
هذا) بينما يقف السيد نقيب الصحفيين قائلا:لقد افتقدنا زميلا عزيزا..وصحفيا فاضلا..مارس
المهنة مترسما خطاها الأخلاقية والاحترافية كما يليق بصحفي شريف..حقا لقد افتقدنا
الزميل 7774..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق