90s fm

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

الحصري..رتّل فأبكي


لا يترك الشيخ محمود خليل الحصري لمحبيه وعاشقي تلاوته الفرصة لاتخاذ المسافة الكافية منه إذا ما حاول أحدهم الكتابة عنه،هو قريب قرب صوته الدافيء، وحنون كموسيقي حنجرته السماوية، ومذهل يكتسح كل ما أمامه بأناقة وفروسية ،هو الأب ذو المهابة حينا،وهو الجد الحنون تارة أخري..عليك أن تتوحد معه توحده مع كتاب ربه..وإذا لم يحدث لك هذا..فاستمع له مرة أخري من فضلك لأنك لم تسمعه جيدا حتي الآن.

فالحصري لأسباب لا ندركها تحديدا،يبدو كأمر محسوم أزلا..هو الحصري وكفي..علي حنجرته هبط القرآن لاسطوانات الاذاعة المصرية،ومن حنجرته استمع ملايين المسلمين الي كتاب الله بقراءات عدة..لم نفق من بديع قراءته لحفص عن عاصم حتي باغتنا برائع تلاوته ل"ورش"..ومن قراءة لأخري ومن تلاوة لغيرها كان الشيخ الجليل يتحرك بثبات ورسوخ كما لو كان مبعوثا في مهمة خاصة،قطع علي نفسه عهدها قبل أن تحل روحه في بدنه.

ولد الشيخ الجليل الحصري عام 1917 في قرية شبرا النملة،وحفظ القرآن بكتاب القرية،وتم تعيينه بالإذاعة المصرية عام 1944 وخرج صوته علي الهواء مباشرة للمرة الأولي يوم 16 نوفمبر من نفس العام،إلي أن تقلد منصب شيخ المقاريء المصرية عام 1960، ليسجل في ذلك العام القرآن كاملا للمرة الأولي في تاريخ الاذاعة.وليمنحه عبد الناصر بعدها بسبع سنوات وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي.

وكان الشيخ _بطبيعة الحال_ في ذلك الوقت واحدا من تجليات قوة الدولة الناصرية التي رسخت نفسها بجيوش من المبدعين والمثقفين والموهوبين والعلماء والمشايخ والقراء، فالشيخ سافر مع عبد الناصر وصاحبه في عدد من جولاته الخارجية وكانت حنجرته السماوية وقراءته الرجولية الزعامية(إذا صح أن نصف أجواء تلاوته بهذه الصفات) جزءا من بريق زعامة مصر ونفوذها البالغ في ذلك الحين.وانظر إلي ما يعتري مستمعيه حين يعتلي الشيخ منصة التلاوة،بل بلغ الامر أن حمل عشاقه سيارته في ماليزيا وهو بداخلها تعبيرا عن محبتهم الفائضة وعشقهم الذي لا ينتهي للرجل المبارك.

وهو ما أدركه السادات بعد ذلك عندما قرر أن يصطحبه ايضا لعدة جولات خارج مصر،وبلغت الامور ذروتها حين قرأ الحصري القرآن في قلب البيت الأبيض أمام الرئيس الامريكي جيمي كارتر،ثم رتل الايات ترتيلا في مبني الأمم المتحدة.

لا تكفي القراءة الظاهرية لحياة الشيخ الحصري لمعرفة سر تفوقه الكاسح وتمكنه المذهل،فهذا الرجل إذا قدم إلي قراءة القرآن كان يبدو كما لو كان منفصلا عن كل ما حوله،تتسق روحه وحنجرته،ويتواصلان سويا مع أنشودة السماء دون وسيط أو وسيلة..الروح تعي والحنجرة تترجم "وما كان عطاء ربك محظورا".

قراءة القرآن لدي الحصري لم تكن عملا فنيا،أو أداءا احترافيا،كان رساليا يدرك أن ثمة شيء ما في القرآن أبعد وأعظم من مجرد تلاوته علي الملأ بصوت عذب وفقا لأحكام ضابطة حازمة فحسب،يحكي عنه الأديب والحكاء الكبير خيري شلبي أنه قال له :"سيولة التطريب تختزل ثلاثة أرباع التأثير القرآني المطلوب توصيله في كثير من الآيات التربوية الحاسمة..إن التطريب يجعل المستمع ينبسط وينتعش كما لو كان يسمع أغنية جميلة وهذا لا يجوز" ثم سكت الشيخ الحصري قليلا وقرأ آية من آيات العقاب والوعيد أمام خيري شلبي فاستشعر الاخير نوعا من الرهبة فقال الحصري بعدما صدق :"هكذا لابد أن أضرب المستمع بها في دماغه ليفيق مباشرة!".

وهذه الفلسفة في قراءة القرآن تظل هي السمة الابرز مع الحصري علي الاطلاق،فهو واحد من أكثر القراء تمكنا من إدارك العلاقة الصوتية المفترضة مع كل آية وفقا لغرضها ولموسيقاها الداخلية..فقد كان ينتقل من ضمير لآخر في القران مدركا طبيعة التلاوة المفترضة في هذا الجزء أو غيره،فإذا سمعته يتحدث بلسان الله :"يا موسي إني أنا الله" استشعرت رهبة الحق إذا تكلم..وإذا تكلم بضمير الوسيط كما ورد في الكتاب الحكيم :"يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم" ستسشعر خجل كليكما أمام خطاب الحق..بينما ستحس براعة القاص والحاكي الماهر حين تجتذبك الآيات تباعا :"فأجاأها المخاض الي جذع النخلة".

وكان للحصري حضوره إذا اعتلي منبر القراءة،فمن مسجد السيد أحمد البدوي الذي رتل فيه الشيخ القرآن ترتيلا من العام 1949 حتي العام 1955 إلي مسجد الإمام الحسين بالقاهرة،كان الرجل الجليل يدرك طبيعة ما نذرته الأقدار إليه..يلقي بالدنيا خلف ظهره ويجلس جلسته الثابتة..تتحرك يداه إلي خده عفوا وطوعا وتمارس روحه هوايتها المفضلة في العروج لأعلي كأنما ليعاين الوحي في منبعه الاول قبل أن يترجمه اللسان وتجهر به الحنجرة..يتلو الشيخ وهو راسخ في مكانه كأنما مهابته من مهابة نصه..وكأنما يشفق علي نفسه من عظم المهمة "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا" فيرق الصوت وتختنق العبرة ويذرف الرجل دمعا طويلا.ويحكي البعض أن آخر ما قرأه قبل وفاته عام 1980 قول الحق تعالي :"يسألونك عن الساعة أيان مرساها ،فيم أنت من ذكراها،إلي ربك منتهاها،إنما انت منذر من يخشاها،كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" وقالوا قرأها بصوت غريب وبلحن شجن وببصيرة صافية.

والعلاقة بين الحصري وكتاب الله لم تكن علاقة سطحية تنتهي سريعا بمجرد ترجله عن منبر التلاوة،بل الآيات ملء جوارحه وسمت سلوكه "وأما السائل فلا تنهر".. وهنا يحكي خيري شلبي :"شهدت بعيني الكثير من اعمال البر قام بها الشيخ الحصري،ورأيت الكثير من المساعدات الخيرية التي يقدمها للمشاريع الخيرية وللمحتاجين وللناس كأفراد ذوي حاجات من غير ان يعلنوا عنها أو يسألوه صدقة،كان سخيا جوادا".

ويحكي عنه ابنه السيد الحصري أن أباه كان حنونا وكان يشجع ابناءه علي حفظ القرآن وكانت مكافأة حفظ السطر خمسة عشر قرشا وحفظ الجزء الواحد عشرة جنيهات..كان ذلك عام 1960.

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

اول مرة اتفق معاك بكل حواسى
لا فض فوك
للشيخ الحصرى مكانة فى قلبى
وعلامة فى علاقتى بقرآنى
انعم الله عليه بصوت يجسد هيبة وجلال القرآن ويريك آياته..
بجد بيفرق اوى معايا..
اللهم اهدنا بهداية القرآن يارب

الحلم العربي يقول...

يكفيه ان في أي مكان لتحفيظ القرآن يوصى بسماعه هو الوحيد لتعلم القراءة الصحيحة بالرغم من أن القراء كثيرين و كلهم يقرأون القراءة صحيحة و لكن " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"
اللهم طهر قلوبنا و نفوسنا لنفهم القرآن الفهم الصحيح و افتح علينا به فتوح العارفين
تحياتي
كل سنة وانت طيب

nyira_elsheiref يقول...

كتبت فأبكيت

Che Ahmad يقول...

استمحيك عذرا يا جميل

انا بجد استمتعت حتى الثمالة

بس انا اخدت المقال فى منتدانا وضيفت عليه المصحف المرتل بصوت اليشخ الحصري وقولت انه بتاعك :)
http://www.fci4all.com/forums/index.php?act=findpost&pid=56833
وهعمل كدا مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لو مكانش يضايقك :)

كل سنة وانت طيب وبألف خير واحسن صحفي فى الدنيا
رمضان كريم