أتفهم وجه استياء بعض الأصدقاء من لقب "منتخب الساجدين" الذي يحمله المنتخب المصري منذ كأس الأمم الأفريقية 2008 في غانا فإدخال الدين في الكرة _بنظرهم_لا يفرق كثيرا عن إدخال الدين في السياسة، وكلها موطئات لدولة دينية تصادر الحريات وتفرض رؤية أحادية وحيدة تنطلق من "تفسيرها القسري للإسلام".
الأزمة أن الأصدقاء يقيمون اللاعبين بنفس المقاييس التي يخضعون لها الكوادر الحزبية و"نشطاء المجتمع المدني" ..
فهل تنتظر أن يرفع محمد ناجي جدو فانلة المنتخب بعد تسجيله هدفا لنجده قد كتب على ال "تي شيرت" الأبيض الذي يرتديه تحت فانلة المنتخب " الليبرالية طريقي للمرمى"؟..أم نتوقع أن يعزو محمد زيدان هدفه الرائع في مرمى الكاميرون إلى إيمانه المطلق بالدولة المدنية؟
دعنا نسأل:ما هو متوسط المستوى التعليمي للاعبي المنتخب الوطني؟ ما هي البيئة الاجتماعية والثقافية التي ينحدرون منها؟ ما هي المشاريع الشخصية التي ينتمون إليها؟ ما هي السياسات التي تتعارض مع حياتهم اليومية وتؤثر على دخولهم الشهرية ومستقبلهم ومستقبل أسرهم؟
الكرة كرياضة تعتمد على الحظ كآلية أساسية في تحديد الفوز والخسارة (تغيير الكرة لاتجاهاتها، تعاطف القائم والعارضة من عدمه، أخطاء التحكيم الواردة، تعثر لاعبي الفريق المنافس بصورة مفاجئة كأن تفلت كرة من مدافعهم بصورة غير متوقعة فنسجل هدفا، أو أن تفلت كرة من مهاجمهم أمام مرمانا لا لشيء سوى الحظ!)
وسط كل هذه المعطيات شبه الغيبية، لابد أن يتقدم لاعب حاصل على دبلوم الصنايع(لا أحقر من شأنه لا سمح الله) بالشكر إلى القوى الغيبية التي يعتقد أنها تسانده، سواء كان هذا الشكر بالسجود إلى "الله" الذي وفقه لتسجيل الهدف، أو لدبلة الخطوبة، حيث نرمين خطيبته الجديدة هي وش السعد عليه وفأل الخير الذي دخل حياته.
ومن الطبيعي أن يعبر لاعب من "كفر البطيخ" عن فرحته في الملعب بالسجود اتساقا مع الموروث الإيماني الذي تربى عليه في قريته الصغيرة التي يتوسطها مسجد كبير، طالما مثل في نفسية اللاعب كعبة الله في قريته.
وكيف سيقدم اللاعب المصري(مصري مسلم عالمثالثي) هويته الخاصة وسط طوفان الهويات والماركات في المستطيل الأخضر؟
حذاؤه ماركة نايكي، والفانلة إعلان ل "كوكا كولا"، والراعي الرسمي للبطولة شركة "سوني"، ومصاريف الانتقالات والإقامة بتمويل من HSBC، فكيف سيتحدث هذا اللاعب عن هويته الخاصة وكيف سيعبر عن قيمه وعقائده(التي تشكل عادة الجانب الأكبر من شخصيته) وسط كل هذه العلامات التجارية، التي اقتضت بالضرورة أن ترتبط ذهنيا بالغرب وما يمثله الغرب من عدوان عسكري وقيمي علينا؟
لا تتناسى أن الدين يكاد يكون ابتكارا مصريا، وأن كل مصري تقريبا يتحرك وبداخله موروث ديني هائل يستقوي به على كل نازلة، ويضعه كخط دفاع أخير وكعزاء أوحد عما يلاقيه في هذه الدنيا.فلا السجود يعني بالضرورة الإيمان ب"جاهلية المجتمع" ولا رفع اليدين بالدعاء أثناء المباراة يقتضي كفر اللاعب بالمواطنة.
في كأس 1998 في بوركينا فاسو، سجد حازم إمام ورشم هاني رمزي الصليب..ولم يتكلم أحد، بل تم اعتبار كلا الفعلين علامة على أخلاق اللاعبين وسمن بعسل على مائدة الوحدة الوطنية.
فقط ينبغي التفريق بين تعبيرات الفرحة بصورة دينية، وبين إسباغ صفة دينية كاملة على المنتخب ننسب إليها كل نصر!
أي فوز للمنتخب الوطني هو نتاج جهد ولعب..ويتدخل توفيق الله من عدمه في مرحلة تالية على هذه العناصر، كما يشير الإسلام نفسه في أدبياته.
يجاوب فيسلوف الإسلام وشيخه الأكبر محيي الدين بن عربي عن السؤال الحرج والمؤلم (لماذا قد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين؟)..قائلا أن إخلاص أهل الكفر لكفرهم كان خيرا من إخلاص أهل الإيمان بإيمانهم..وما يعنيه ابن عربي في هذا الموضع بالإخلاص هو الأخذ بأسباب النصر والهزيمة من استعداد وتدريب.
فماذا لو التقى منتخب الساجدين المنتخب السعودي؟ هل سيفوز الفريق الأكثر إيمانا أم الأكثر استعدادا؟
هل تفوز البرازيل لأنها كاثوليكية أم تخسر المغرب لأنها مسلمة؟
الانتصار شيء..والاحتياج النفسي للدين وإعادة انتاج هذا الاحتياج في صور دينية مختلفة شيء آخر..
الآن في عصر التدين الجديد أو ما يطلق عليه new age أصبح التعبير عن الدين كهوية شيئا مفهوما وواردا بشدة (على مستوى الديانات الثلاثة، حسبما يرصد علماء الاجتماع اتجاهات التدين الجديدة في العالم ووسائل التعبير عنها، ولم يعد الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن أو في الكتاب المقدس أمرا مستغربا، فاستدعاء "الرب" أصبح ضروريا أمام توحش الآلة وتغول الميكنة وقسوة الضرائب..فللرب عواطف ورحمات بينما الميكنة وغلاظ الأكباد من جامعي الضرائب لا.
سجود لاعبي المنتخب كان من الممكن اعتباره تعبير عادي جدا من لاعبين مسلمين تنص كلاسيكيات دينهم على أن السجود صورة ممكنة للتعبير عن الشكر، ولا يلام مسلم على دينه.
ماذا لو أن لاعبا مسيحيا يلعب في المنتخب؟ ماذا لو أن منتخب مصر كله من اللاعبين المسيحيين؟ ثم سجل أحدهم هدفا ورشم الصليب على إثره؟
كمصري..سأقفز من مكاني بعد تسجيل المنتخب للهدف، وليفعل اللاعبون ما شاءوا، فليرشموا الصليب أو فليقيموا قداسا في الملعب لو أرادوا، كل حر مع ربه، وكل حر في التعبير عن فرحته بطريقته، وحقي أن أستمتع بمنتخب بلادي.
تسألني ماذا سأفعل لو كنت لاعبا في المنتخب وسجلت هدفا؟ أقل لك سأسجد، وسأقبل دبلة نيرمين!
هناك 9 تعليقات:
روعة
مقال جيد يا احمد
ولا أجد في كل مرة يتم الحديث فيها عن منتخب الساجدين سوى الابتسام و أتذكر ربط انتصار حرب أكتوبر بتكبير الجنود وقت العبور.
في أوقات الأزمة والمحنة يحن الناس إلى حائط يظللهم من هجير المواجع ويرطب من حولهم أجواء القيظ .. على الرغم من أن هذا الحائط نفسه ياعني مما يعانون علاوة على أنه لا يملك مثل ترف الشكوى أو التوجع .
مقال يقول كثيراً مما نريد قوله .
لقد سجلت هدفاً بالفعل يا صديقى
فلتسجد ولتقبل دبلة نيرمين
مقال جميل فعلا
انت اصبت كبد الحقيقة لما قلت انه السبب هو توحش الآلة أمام الروحانيات و العقائد و في رأيي هو الهجوم الشرس اللى من قبل العلمانية العالمية على الدول التى لازالت تحتفظ ببقايا من دينها و لكن داخلها بعض الشكوك المتراكمةالامر اللى بيخلي الشعوب تتعاطف لأنها بتكون محتاجة لأي شئ يثبتها و يحسسها انها صح مش غلط
حاجة كده زي المشهد بتاع كريم عبد العزيز في فيلم حرامية في تايلاند لما لقى واحد بيتكلم عربي في تايلاند قاله : عمار يا مصر :))
احساس المنتمي لدينه بانه بقى غريب وسط العالم بيخليه يتشبث بأي شئ له علاقة بالدين
رائع
من المشاهد المعتادة في عالم الكرة أن يرسم اللاعبين المسيحيين الصليب على صدورهم قبل دخول الملعب, و رغم ذلك لم يتهمهم أحد من قبل بإقحام الدين في الكرة. فالسجود مثله مثل الصليب فعل تلقائي نابع من البيئة المحيطة باللاعب و قناعاته الشخصية كما أوضحت أنت.
لكن المشكلة هنا عندما يتم التنصل من لقب منتخب الفراعنة بدعوى أن الفراعنة لم يكونوا مسلمين, أو أن يكون تدين اللاعب من عدمه المعيار الأول لوجوده في المنتخب, فهنا يكون إقحام الدين في الكرة.
ممكن شوية الناس بتكبر الموضوع .. المصري بطبعة دينه لا علاقة له بالسياسة .. فـ مفيش داعي يقلقواْ =D
مجرد التعبير عن الانتماء الديني ، لا يعني نهائياً الرفض للمجتمع المدني .. زي ما حضرتك وضحت ..
دمت رائعاً ..
وهو مين قال إن التدين ينافى العمل بغض النظر عن إن ده لعب أنا بتكلم على العموم لأن نظرة حضرتك فى المقال توحى بكده
يعنى أنا شايف إن فيها تواكل وده مش مظبوط تماماً . التدين المفروض إنه يشجع على العمل
الحاجة التانية اللى كنت أحب انبه ليها إن حضرتك قولت إن التدين ده ظهر عشان يواجه الميكنه الحديثة وده صح بس مش عند المسلمين
لأن بالمقارنة إن التدين دلوقتى أقل بكثير عن ما كان عليه الصحابة والتابعين بل وحتى العصور القريبة قبل الاحتلال كان أكثر بكثير مما عليه المسلمون الآن
وبعدين إيه يضر إن المنتخب يطلق عليه منتخب الساجدين ياريت الشعب كله يقولوا عليه شعب الساجدين
أما بالنسبة لإبن عربى ياريت تقرأ عنه أكتر
في الحقيقة لم أر تحليلاً منطقياً لمثل هذه الظاهرة كمثل الذي قدمته في هذا المقال ، و أتفق معك في أن لكل شخص الحرية في شكر ربه و التعلق بغيبياته ، و لتهتز شباك الفريق المنافس .
إرسال تعليق