90s fm

الخميس، 18 أغسطس 2011

حكاية مظروف مغلق وصل متأخرا ثلاث سنوات


وصلني بالأمس مظروف مغلق..جاء متأخرا عن موعده ثلاث سنوات كاملة.

التأخر قدري بحت، لأن عملية التسليم والتسلم، لابد كانت يدا بيد، فلا دخل لهيئات البريد في الأمر بشيء.

هذه الحقيقة في حد ذاتها، على عكس ما يبدو لك، تضاعف من دراما المشهد. فالخبر المتكرر الذي ظل يطرح نفسه كل عدة سنوات على صفحات الجرائد، حول الخطابات التي أرسلها جنود في الحرب العالمية الثانية لزوجاتهم وقد وصلت لتوها في نهاية التسعينات، لم تكن لتؤلمني بمقدار ما كانت تبعثر كياني وأفكاري، وتدفعني للتخوف من خطاب لن يصل أبدا متى ينبغي أن يصل.

لقد انغلق المظروف على محتواه قبل ثلاثة سنوات، انغلاقة لن يفتحها إلا إياي، ومن ثم فمحتواه سهم القدر الذي انطلق في الفضاء ولم يعد من الممكن استرداده على وتر القوس..هكذا هو الأمر.

أتأمل المظروف وقد قطع مسافة شاسعة من بلد، حين مررت فوق ضبابه بالطائرة، قلت لا بد أن حافة العالم هنا..ولم أجد المبررات الكافية كي يخلق الله على ضفته الأخرى قارة كاملة، وبينهما محيط هادر.

أضع المظروف أمامي على المكتب، وألقي بظهري لأقصى وراء يمكن أن يسمح به انثناء الكرسي الجلدي نصف الوثير.

أتفحصه مليا، وأفكر في عشرات الاحتمالات في أجزاء من الثانية، وما بين كل احتمال وسواه، مسافة شاسعة من رد الفعل، وتأسيس أو نفي، لحقيقة كنت أتحسس ملامحها منذ سنوات مضت.

حين أفتح هذا المظروف سأحكم على نفسي، تفكيري ومشاعري، وسينتهي فصل ما من حياتي على نحو أكثر دراماتيكية مما كنت أعتقد.

ربما لو كنت أصغر سنا، ومن ثم أكثر رعونة، لفتحته فورا، دون أحسب حسبانا واحدا لا يصب في صالحي، لكن ثلاث سنوات تكفي بشدة كي يصير الواحد أكبر سنا.

تتحسسان يداي المظروف، تحسسا مرتبكا، وعيناي-على شرودهما- مثبتتان فيه، ولا صوت حولي مطلقا، كأن كل شيء قرر أن يصمت فجأة.

أتنفس بعمق، بينما يهيأ لي أن صوت سريان الدم وتدفقه في شراييني وأوردتي، يلقي بحفيفه نحو أذني، وسط هذا السكون الذي قررت إرادة ما أعلى مني أن تفرضه على الحيز المحيط بي.

أفتحه حذرا مشوشا مبعثرا، كأني لا أجيد تمزيق ورقة مقواة مطوية كي أتفحص محتواها!

يتمزق صوت الورق فأحس أن القيامة ستقوم الآن، وأشفق على نفسي من لحظة قادمة ستتبدل فيها الأرض غير الأرض.

وأمتن داخلي لقدري ومصيري، الذي يحوز فيه الأدرينالين دور البطولة، وأتساءل التساؤل البدائي: هل هي حياة سينميائية بزيادة؟ أم أننا نتعلم من السينما كيف ىيمكن أن تكون الحياة درامية على هذا النحو.

أتناول مغمض العينين ورقة، تصاحب محتوى المظروف (الذي هو في الأغلب هدية)، وأشرع في تسوية انثنائتها الكتوم.

أول ما أتناول الورقة، أرتد بغتة لسنوات مضت..الخط نفس الخط يا إلهي!

لم تتغيري قيد أنملة أيتها اليد التي كتبت..

الخط هو هو..

ما الجديد؟ هل لا ينبغي أن يكون هو هو؟ أم أنني أتخوف من تغير ما، أربطه-عسفا- بتغير في شيء آخر؟

احاول التركيز عشرات المرات كي ينتظم الخط في عيني فيستحيل إلى جمل مفهومة، بدلا من التنقلات والقفزات التي أجريها من أول الخطاب لآخره دون أن أفهم حرفا.

بعد نصف ساعة تقريبا، أضع الخطاب جانبا، وأتناول محتوى المظروف..الهدية.

هدية تشبهني جدا..هدية لي بمفردي ( كما أشترط على أي حد ينتوي مهاداتي)..هدية تطابقني، كما يطابق الخط نفسه في الخطاب!

أضع كل شيء أمامي: المظروف الممزق، الهدية التي تشبهني، الخطاب المكتوب بخط يشابه نفسه.

أغمض عيني وأقول: أروع ما حدث أنه جاء الآن..الآن فقط.

هناك 4 تعليقات:

الحلم العربي يقول...

حقا..لا شئ يحدث في هذا الكون مصادفة

عبد الرحمن سالم يقول...

Beautiful !

فعلاً ! :)

جنتلمان يقول...

رائع

Adabclub يقول...

إن كل شيئ خلقناه بقدر