ما الذي تعنيه وفاة عمر سليمان بالنسبة لي؟
يثرثرون كثيرا فيما يخص وفاة عمر سليمان، وأنا بمفردي أحتفظ بدهشة شخصية، تربكني كما لم أرتبك من قبل.
من موروثات طفولتي، قناعتي التامة أن هناك أشخاص لن يموتوا أبدا..كان على رأسهم جدي (رحمه الله).. ، وأحد أساتذتي في المدرسة الابتدائية الذي لا أعرف أين محله من الأرض أو السماء الآن..
وأخيرا: عمر سليمان الذي لقي ربه قبل أيام.
الأمر لا يتعلق بولهي المبالغ فيه بشخص سليمان، ولا لأنني من فريق يرى أنه الرجل الفرصة الذي فقدته مصر.. الأمر- بالأساس - يتعلق بكوني رأيته شخصيا مرتين، واقتربت منه لمسافة تقل عن نصف متر، وتأملته عن قرب..عن قرب جدا.
وفي القرب-كما تعلمون- درجة من التفهم تتولد بين الطرفين، والتفهم –بطبعه- يسفر عن تعاطف ما، ارتباط ما، تبرير ما.
كان سليمان لغزا كبيرا بالنسبة لكثيريين، كان في عقيدة البعض مهديا منتظرا سيطيح بمبارك وعائلته في لحظة مباغتة، وكان في عقيدة آخرين ضلع الاستبداد الأصلد..وما بين هؤلاء وأولئك تناثرت روايات كثيرة يناقض بعضها بعضا.
رأيته أول مرة عام 2007، في أحد فنادق القاهرة، في مصادفة غريبة سمرتني مكاني، ولم أنطلق نحوه كي أعرفه بنفسي..
بسذاجة صحفي في مقتبل العشرينيات، كنت سأقول له: أنا صحفي وأريد أن أجري معك حوارا. لكن المفاجأة ألجمتني، وربما كان في هذا مصلحتي.
في المرة الثانية، في العام 2009، حين جاء أوباما لجامعة القاهرة كي يلقي خطابه للعالم الإسلامي.
كنت أراقب من موقعي في شرفة الدور الثاني من قاعة الجامعة، حركة سليمان الواثقة، ونظرته الشاردة، وحضوره غير المتضرر من حضور الآخرين وغير الآبه بهم..كان برأيي ممن لا يجيدون لعب دور الرجل الأول، أو أنه زاهد جدا، أو أنه داهية فوق ما نتوقع جميعا.
قبل أن يجلس في كرسيه، التفت خلفه فإذا صف من المشايخ الأزهريين،فنظر إليهم- سليمان- بتواضع جم وقال: السلام عليكم ورحمة الله ثم جلس..في لفتة مهذبة جدا، لم يقارفها جمال مبارك ولا نظيف ولا أيا من رموز وأركان دولة مبارك حينها.
لدى الخروج من القاعة كانت المسافة بيني وبينه هي نفس المسافة بيني وبين شاشة الكمبيوتر الذي أنقر حروفي الآن عليه.
كان صلب البنية، متين العظام، بملامح صخرية قاسية، ونظرة ثاقبة..كل هذا محمل على جسد يسير بعرج خفيف لا يكاد يلحظ.
في هذه المرة كنت أكبر بعامين، وكنت أهدأ نفسا من أن أذهب إليه وأقول له: أنا صحفي وأريد أن أجري معك حوارا.
ومع اندلاع الثورة، وتعيينه نائبا، وحديثه لوسائل الإعلام كانت صدمتي كبيرة، الرجل ليس عميقا بالمرة، ليس ملما بكل الخيوط والأطراف، لا يراوغ ولا يبادر بإجابات ذكية أو حلول حصيفة..لم يفرق قيد أنملة عن مبارك "الأهبل" "السطحي" "محدود القدرات".
وبعد الإطاحة بمبارك، جاءت ملفات التحقيقات معه صادمة، فمعظم إجاباته عن أسئلة النيابة كانت محبطة تتراوح بين: لا أدري، لا أتذكر..وإما إجابات عمومية جدا.
كانت كلها مملة وعديمة الإفادة، ولا تناسب مقدار الإثارة والتشويق المنثورين حوالي الكهنوت السليماني.
حين يتكلم كان يبدو كالجبل الهادر، ولكن الخلاصة القولية لما يفضي به: كأننا جالسين والماء حولنا..كقوم جلوس حولهم ماء.
ورغم كل شيء، حين يرد ذكره، كنت على الفور أذهب للنسخة الشخصية التي أحتفظ بها في ذاكرتي لعمر سليمان، بعيدا عن ثرثرة الإعلام..سواء من مادحيه المأجورين، أو كارهيه الشانئين.
كلما جاءت سيرته، كنت ألفظ ميراث ويكيليكس الذي هو برمته محل شك لدي. وكنت أهرع لصورة الرجل الذي يعرج عرجا خفيفا، ويبدو شارد الذهن غير آبه بالمحيطين، ويبدو على نحو ما "يدرك شيئا ما".
الطفل بداخلي كان ينتظر تشويقا أكثر، وينتظر نهاية أكثر درامية (حلقات مسجلة بشهادته واعترافاته، أسراره التي سيكشفها على برنامج تلفزيوني، بكاءه بين يدي محقق نيابة خشن لينهار ويعترف بكل شيء).
لم أستبعد أن يكون عمر سليمان محبا للشيكولاتة والبطاطس المحمرة، كنت أنسج عشرات التفاصيل، بشوق وتوق طفل يشاهد فيلما بوليسيا، لا يعرف كيف ستكون نهايته، لكن الأشرار عادة ما يلفظون بكل الحقائق قبل الموت. كما أن الأبطال يقولون لنا الحقيقة الكاملة كي نتعاطف معهم دراميا وأخلاقيا.
لقي عمر سليمان ربه..ومازال في نفسي سؤال طفولي لا يكف اعتمالا: هل هذا هو كل ما لديك يا سليمان؟
هل أنت تافه فعلا وسطحي وسخيف إلى هذا الحد؟
صورتك في ذهني تقول شيئا آخر، اقترابنا سويا في محيط واحد كان يقول شيئا آخر (هذا لو سلمت بنقاء الطفل بداخلي حين يقيم الأمور).
لكن هنا، لا يجوز ألا تحترز ثوريا وتشتم سليمان. أو كخيار أغبى: أن تحتشد فلوليا وتترحم عليه.
ما بين العاطفتين والنازعين والسؤال الطفولي العالق..أسأله في برزخه: هل هذا هو كل ما لديك يا سليمان؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق