في السودان عرض البعض علي المساعدة بإخلاص وصدق شديدين فأنا من مصر "صاحبة الفضل الذي لاينسي علي الشيوعية في العالم العربي"..فيما قدمني آخرون للصلاة إماما في المسجد لأني "..من أرض الإمام البنا"
*****
تقول النكتة المصرية "مرة واحد راح السودان بالليل ملقاش حد"..رغم خبث النكتة..الا انها فى رحلتى للسودان تجسدت واقعا ملموسا.. ذهبت الي السودان ليلا ولم أجد أحدا!
وصلت الخرطوم في الرابعة فجرا،لأفاجأ بنفسي في مدينة شبه مهجورة،ينام في المطار عدد قليل من سائقي التاكسي في كسل ودعة،الشوارع خالية تماما،لايوجد أحد علي الإطلاق،كل المحال مغلقة،كل شيء يشي أن ثمة مدينة كانت هنا قبل قليل ثم اختفت في جوف الليل..
كان الاستقبال حافلا ولم أضع في حسباني "أن أول الغيث قطرة ثم ينهمر"..و"قطرة" الاستقبال لم تكن شيئا مقارنة ب"غيث" رحلتي في الخرطوم التي امتدت ل "أسبوع". ذهبت الي السودان "أعلل النفس بالآمال أرقبها"..سأستقل مركبا نيليا في نزهة رائعة ،وسأذهب إلي "حضرات" الصوفية أذوق خمر الذاكرين وأتمسح في جلاليب الواصلين، وسأزور الأسواق السودانية وأشتري "الدوم" و"الخروب" و "الخمرة" و"الدلكة"..سأتحدث مع البسطاء وسأرصد كيف يعيش الشعب الشقيق(ماذا يأكل وكيف يفكر وكيف يحب ويتزوج..وما شعوره ورأيه حيال محاكمة الريس البشير).وأعود الي القاهرة بعد اسبوع من الفسح والمرح في منزلة بين منزلتين .."الصحفي" و"السائح".
لكنني رغما عني ومنذ اللحظة الأولي وجدت نفسي في قلب عاصمة علي وشك شيء ما أكبر من أن أستطيع تسميته أو توصيفه،فاليافطات تملأ الشوارع مساندة ومؤيدة للبشير في مواجهة" أوكامبو" و "مطامع الغرب في السودان" وسائقو المركبات يضبطون مؤشرات "الراديو" علي القنوات الاخبارية العالمية بصورة أكبر من ذي قبل.
وعلي مقاعد مطعم "الموناليزا" الشهير(مطعم شعبي للغاية..لا تغتر بالاسم) كانت سماعات الراديو العملاقة مصوبة نحو أذني،وعدد من الساسة السودانيين يتحدثون عن "مطامع الغرب" و"مذكرة أوكامبو" و"حقيقة مؤامرة استهداف السودان"..في أجواء أشبه ما تكون بأجواء أفلام الخمسينات والستينات،يعزز هذا الاستدعاء طريقة ولغة الخطابة..مع التشوش إياه الذي يغلف موجات الراديو عادة.
بدأت الرحلة في الرابعة فجرا،بعدما غادرت المطار الي قلب العاصمة بمساعدة رجل سوداني فاضل تعرفت عليه في مطار القاهرة،تركني عندما تأكد أني علي بوابة واحد من أكبر فنادق الخرطوم ،ترجلت من السيارة واصطحبت حقائبي وتحركت ما يقرب من 15 مترا ،فوجئت بالباب مغلقا،لم أستوعب ما يجري في البداية احد اشهر فنادق السودان مغلق فى وجهى ،طرقت علي الباب الزجاجي الاسود بصوت خفيض،قام موظف الاستقبال وفتح لي بوابة الفندق واصطحبني إلي طاولة الحجز ثم أخبرني ناعسا أنه لا توجد أية غرفة خالية..سألته ملحا علي إظهار لكنتي "المصرية" فلربما يرق قلبه للغريب،موفقا أو ملفقا أي حل..كل ما فعله أن أشار بيديه في كسل وبطء مستفزين "شوف لك فندق تاني"..سألته أين؟ فأشار (شمال في شمال)..
لم يكن الاحتكاك الأول بيني وبين العاصمة السودانية سوي تصديق علي الصورة النمطية المشاعة عن السودان (بلد كسلان وأهله كسالي) قررت أن أتبع نصيحة الموظف النائم الذي اكتفي بالإشارة دون الكلام في مشهد بدا كما لو أنه جري بالتصوير البطيء..
حسب الوصفة وجدت فندقا آخرا،طرقت علي الباب المغلق بدوره،صحا الموظف من نومه فزعا واصطحبني إلي غرفة متواضعة،حاولت النوم ولم أتمكن بسبب الصوت المزعج الصادر من التكييف عتيق الطراز،زاد الطين بلة أن هناك كائنا حيا يرتع معي في الغرفة ويتحرك بسرعة مزعجة لم تمكنني من استيضاح ماهيته،بعد ساعتين من الأرق المنظم،فتحت جهاز "اللاب توب" الخاص بي،تعرف الجهاز علي ما يقرب من ستة شبكات انترنت وايرليس،كلها كانت خاضعة ل "باس ورد".."كلمة مرور سرية"..حاولت مع الست شبكات وتمكنت من فتحها جميعا..ليس لأدني عبقرية في العبد لله..لكن كما توقعت..كان الباسورد هو هو اليوزرنيم دون أدني تغيير..حتى النت طاله الكسل السودانى يا ربي؟! إذا تحدثت مع سودانيا عن الكسل،سينفر تماما من السيرة ويبدي ضيقه وغضبه .."شوف الجو عامل إزاي"..وطوال الوقت سيظل السوداني محترزا حيالك كمصري..فالمصري لسانه حلو وبلاف..ومتاخدش منه غير كلام،في مقابل النقاء السوداني الخالص..وحين تصرفت في أحد المواقف الصعبة علي سجيتي،اعتبرني صديق سوداني "مواطنا سودانيا لا مصريا" فقد تصرفت علي نحو بريء لايشي بمصريتي بمقدار ما يعكس "سودانيتي".
السودان رغم كل شيء يظل بلدا طيبا حتي النخاع،تدخل إليه وتخرج منه وأنت تحب جميع أهله، تتوجس حيال البشير لكن القصص الشخصية المشاعة عنه وسط الناس تدفعك عنوة للاعجاب به، تختلف مع الترابي لكن مجالسته ستدفعك لمحبته رغم أنفك،تظل هناك مساحة كبيرة من التسامح تسيطر علي مجريات الأمور،زائر هذا البلد يتلمس ملامح مشروع وطني في كل ركن من أركانه،من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار.
كل سوداني مؤسسة في حد ذاته،حزب متحرك علي قدمين،كل سوداني قادر علي تكوين رأيه الشخصي وفق شواهده الذاتية،لا تشعر بالمصلحة الضيقة في تحريك الاحداث بمقدار ما ستشعر أن هناك مشروع "وطن" في قلب كل سوداني..أي نعم لم أشعر أن هناك حكومة ودولة بالمعني المتعارف عليه تماما..لكني وجدت في السودان ما نفتقده في مصر .."الوطن".
في السودان عرض البعض علي المساعدة بإخلاص وصدق شديدين فأنا من مصر "صاحبة الفضل الذي لاينسي علي الشيوعية في العالم العربي"..فيما قدمني آخرون للصلاة إماما في المسجد لأني "..من أرض الإمام البنا"..بينما تعامل معي غيرهم علي أني مبعوث رسمي للدولة المصرية وبادرة خير من جانب الشقيقة الكبري التي طالما أهملت دورها في السودان وقدروا أن هذا تطورا مهما في العلاقات المصرية السودانية!
ارتباطك بالدولة المصرية عندما تذهب الي السودان ارتباط لاينفك علي الاطلاق،حتي لو كنت صحفيا في جريدة معارضة،فالقاعدة تقول أن كل مصري في الخرطوم هو ضابط مخابرات إلي ان يثبت العكس..والعكس لايثبت عادة..والتهمة(هل هي تهمة؟) لا تسقط بالتقادم.
بل وصل الأمر بعدد من السودانيين الحانقين أن مروا بجوار السفارة المصرية في الخرطوم،بعد أحداث مسجد مصطفي محمود،ووجدوا بائع بطيخ مصريا ينادي علي بضاعته،فسألوه في سخط وسخرية "بطيخ المخابرات بكام اليوم؟"..بوصف بائع البطيخ عنصر مخابراتي مصري بالضرورة هو الآخر.
والمخابرات هنا هي الجهاز الأول في البلاد والمؤسسة الحاكمة علي قبضة الأمور،ولم تكن مفاجأتي بالهينة،حين مررت بجوار مبني فخم يحمل يافطة عملاقة "جهاز المخابرات والامن الوطني السوداني"...(تليفون:..... فاكس:......... بريد إليكتروني:..........).
و يبدو جليا للغريب أن هناك قوتين تتنازعان السيطرة المعنوية علي العاصمة،المخابرات و الامم المتحدة..فالأخيرة تحتل نطاقا عريضا من العاصمة وتتحرك سياراتها في كل مكان حاملة الاختصار الشهير(UN) و لها قطارا خاصا بها، كما يقع نطاق كبير من مطار الخرطوم تحت حيازتها المباشرة متكدسا بعدد ضخم من الطائرات المخصصة لموظفيها.
الندية بين الطرفين تتجلي كأوضح ما يكون في واحد من أرقي أحياء الخرطوم،حي "الرياض"،الذي يقع مناصفة تقريبا بين الجهتين،وهو ما ضاعف من صعوبة رحلتي في هذا الحي باحثا عن آثار أسامة بن لادن في المكان الذي عاش فيه قبل أكثر من عشر سنوات،ربما لتتبلور ملامح مشروعه المستقبلي بصورة أو بأخري.
الكاميرا المعلقة في عنقي والحقيبة المستقرة علي ظهري لم تكن لثبت هويتي الصحفية بمقدار ما أكدت علي حتمية "مخابراتيتي"،أنا أحدثك عن اتهام موجه لبائع بطيخ فما بالك بصحفي،وهو ما دفع كثيرين للعدول عن الحديث،فالوسطاء لم يفلحوا في إقناع عدد من الذين عملوا واحتكوا مباشرة بأسامة بن لادن بلقائي وإفادتي بشأن شخصية أسامة وملامحه وبعض الاشياء الاخري التي يبحث عنها الصحفيون عادة. كما أن الخرطوم "بتكفي علي الخبر ماجور" فأسامة بن لادن قضية انتهت في السودان عليك أن تقتنع بذلك أو لتذهب الي الجحيم..ام أنك تريد أن تفتح عيون الامريكان مرة أخري علي السودان وعلاقتها القدرية بهذا الملف؟
ومن طباخه الي سائقه الي مهندسين وعمال اشتغلوا معه..توجت رحلة البحث بالفشل الذريع،لكن في المقابل جمعت عددا من القصص التي تفلتت من البعض أو عفوا،لترتسم صورة مدهشة عن شخص أسامة وسلوكه .
أول مشوار لي في الخرطوم كان مع سائق تاكسي يدعي "عثمان كسلا" هادئ وودود ،انتظرني أمام الفندق بتنسيق من صديق سوداني مايقرب من الساعة الا الربع دون أدني ضجر أو شكوي،تحرك بي وأوصلني إلي قاعة "الشهيد الزبير" في الميعاد المطلوب،حيث ندوة مقامة عن ذكري نكبة فلسطين(لاحظ ان الندوة مقامة بعد 3 شهور من الذكري ال60 للنكبة!) وجدت نفسي اول الحاضرين،وعندما سألت الموظفين بالقاعة هناك أخبروني مستغرقين في بطء حركتهم "إنت أول زول يجي"..أنهيت الندوة متثائبا وخرجت للطريق في محاولة لاستيقاف أي سيارة.
السيارات في الخرطوم،تتهادي في بطء لا يستوعبه قاهري مثلي،ولم أكن أحتاج أكثر من سرعة مشيتي العادية لعبور الطريق بينما السيارات في الخرطوم تنهب الطريقا نهبا..لكن علي طريقتها السلحفائية.
التقيت صديقا سودانيا،أقلني في تاكسي وبينما نحن في طريقنا إلي وجهتنا رأي أحد أصدقاءه في الشارع،فاستوقف سائق التاكسي،وسلم علي صديقه وسامره قليلا،واقترح عليه أن يشاركنا وجهتنا،فركب الصديق بعد إلحاح،ثم تحركنا دون أن يبدي السائق أي اعتراض!
ربما السلعة الوحيدة التي لم أصادفها في شوارع الخرطوم وأسواقها هي "الساعة"،وكانت النظرية الحاكمة للأمور أثناء التخطيط للقاء المسؤولين والمصادر هي "يللا نطب حالا"..في البداية لم أستوعبها ولم أستسغها،لكن يوما واحدا كان كافيا كي ادرك أنها النظرية الوحيدة،وليست الأكثر فاعلية فحسب،لتسيير أموري.
ومع عشرات المشاوير التي قطعتها في العاصمة الخرطوم بضواحيها ،كان الاحتكاك واسعا ومثمرا بعدد من المواطنين وسائقي المركبات الأجرة(التاكسي والامجاد)،و "امجاد" هي السيارة السوزوكي الصغيرة المعتمدة رسميا كوسيلة مواصلات سريعة وجيدة في العاصمة.
إياك أن تعتقد في الخرطوم أن باستقلالك تاكسي أو "أمجاد" هو شيء كفيل بتوصيلك للمكان المراد مباشرة.. فهناك نصف ساعة ،دون أدني مبالغة، ستستهلكلها في اللف والدوران مع السائق أيا كان عمره وايا كانت خبرته،فالملاحظ هنا أن الناس لاتعرف العاصمة بأي صورة من الصور،وأنا لا أبالغ حين أقول هذا بمنتهي الثقة.
فالتجربة أثبتت أن قادة المركبات الخاصة لايعرفون الاماكن ولا الاهالي يعرفونها وعلي الحظ أن يساندك لاجل اتمام مهامك..الحظ لا أكثر.
والركوب مع سائق تاكسي أو "أمجاد" سيعلمك أن كل شيء في الخرطوم قابل للمفاصلة،كما أن الدرس الذي لقنني الكثيرون إياه "لا تتشاجر مع السائق" كان نصب عيني طوال الرحلة لكني قررت أن أنساه عمدا مع احد السائقين الذي لم يستطع توصيلي الي وجهتي فعمد الي التعبير عن غضبه وضيقه في محاولة لزيادة الاجرة عبر الصراخ وابداء السخط من هذا المشوار،لم أفهم لغته تماما،حاول استفزازي لازيد الاجرة فاشتبكنا لفظيا في معركة غير متكافئة،هو يفهم كل حرف أنطق به وأنا لا أفهم أي حرف مما يقول،وصل الخلاف بيننا لذروته وقررت أن أنهي رحلتي معه وأن ياخذ أجرته ويتركني في حالي ،وليذهب للجحيم هو و المصدر الذي كنت متوجها اليه (هل كان الترابي ياربي؟ لا اتذكر جيدا)،وعندما قرر الاستجابة لي كنا قد وصلنا للمكان المراد!
ومع سائقي "الأمجاد"يمكنك أن ترصد الكثير من مظاهر الحياة السودانية،بداء من شرائط الكاسيت التي يستمعونها "كشك ومحمد حسان وعمرو خالد!" بالاضافة الي المطربين المصريين المفضلين لديهم،ف "شيرين" مطربتهم الاولي،يليها تامر حسني.. وصولا إلي رأيهم فيما يجري في البلد من أحداث ورؤيتهم لمحاكمة البشير،وقد أرشدني أحد سائقي الامجاد ويدعي "مضوي" أن الامجاد هي الوسيلة الاكثر آمانا،فالسائقون عليها عادة متعلمون وعلي درجة ما من الرقي،فضلا ان عددا من سائقي الامجاد عناصر في جهاز المخابرات وهو ما يعد تأمينا لي بدرجة أو بأخري..قالها ناصحا صادقاّ!
زرت جامعتي الخرطوم وافريقيا العالمية وذهبت الي الكنيسة الارثوذكسية وصليت خلف كبار أئمة السودان،وزرت مقام الولي الشهير بأم درمان الشيخ حمد النيل،ولك مكان وكل محل زرته كان له رونقه وقصته.
ومن سائقي الامجاد والتاكسي الي أسواق وشوارع الخرطوم،حيث كل شيء صارخ الغلاء،وحيث الجميع مرتبك في استخدام العملة،تسأل البائع عن ثمن السلعة فيقول لك :"سبعة ألف جنيه"..يصيبك الذهول الي ان تدرك أنه يقصد سبعة جنيهات فقط لكنه يستخدم المقاييس القديمة للعملة قبل صدور الجنيه الجديد،وبين الرقم الفعلي وضعفه ألف مرة وواحد من ألف من القيمة المطلوبة عليك أن تخمن وأن تحسب الاسعار والاثمان،واذا فرغت من هذه الحسابات الاسطورية،عليك أن تحسب القيمة بالدولار لتدرك كم دفعت في نهاية المطاف.
فارق العملة هو المفتاح الرئيسي لفهم هجرة عشرات ومئات المصريين الي السودان،التقيت عددا كبيرا منهم في المطاعم والمقاهي والشوارع وسألتهم عن سر هجرتهم الي السودان،وجاءت الاجابات مدهشة وجاء الواقع مثيرا ومفجعا ،فبعض قري الدلتا لفظت ابنائها بصورة جماعية الي بلد غريب و هذه المرة ليس ايطاليا التي يحلم الجميع بالتمسح بشواطئها،لكنها السودان حيث الفقر وجيوش المتمردين والتهديدات والاخطار الدائمة.
و حين دخلت مطعما كبيرا بالقرب من المطار وجدت أربعين مصريا يعملون هناك،أغلبهم من قرية واحدة،يضبطون مؤشر التلفزيون علي القنوات المصرية فحسب،ويتأففون من طلب بعض الزبائن بتحويل البث الي قناة سودانية تبث مسلسلا سودانيا شهيرا،فهم لايفهمون اللهجة السودانية تماما،ويتعاملون مع وقت بث المسلسل السوداني كما لو كانت فترة سجن اجباري.
امتد الهزار بيني وبين العاملين المصريين هناك الي ان رفضوا ان يدخل احدهم في كادر احدي الصور التي شرعت في التقاطها لهم بحجة أنه "زملكاوي معفن"..لم أتمالك نفسي من الضحك أمام طراز الدعابات الذي يحمله المصري معه الي اي مكان،إلي أن فاجئوني جادين "إنت اهلاوي ولا زملكاوي؟".. "شكلك زملكاوي؟"..أقسمت لهم أني اهلاوي النزعة والهوي والميول....تركتهم وخرجت مذهولا..فقد كنت قبل قليل داخل مستعمرة مصرية خالصة..مخيم لاجئين مصري..هربوا من البلد الخانق الضيق الفرص
إلي بلد لايفهمون فيه "شنو" و"منو" و"هسع" كما قالوا..أحسست في مطعمهم أني تنفست هواءا مصريا خالصا..ولم أستوعب الفارق المكاني حين خرجت من المطعم فقد توقعت ان اجد نفسي وسط أحد شوارع القاهرة،لكني وجدت نفسي داخل الخرطوم محاصرا بحسابات صحفية وسياسية وشخصية أكبر من أن أستطيع تجاهلها.
اذا فلننح الرحلة النيلية جانبا،ولنؤجل شراء "الدوم" والخروب"..ما الذي يجري بالضبط هنا؟.
حاولت تقصي الحقيقة من كل أطرافها فكان طبيعيا ان أسعي
للقاء الرئيس السوداني عمر البشير،حاولت التنسيق عبر الاجهزة الرسمية،ولم يتم البت في الأمر تماما ولم يتم رفضه بصورة صريحة،لكن بدا أن هناك اتجاها داخليا لابعاد الرئيس البشير عن الاعلام الخارجي تجنبا لأي خطأ محتمل،قد يكون خارجا عن السيطرة،وهو ما تجلي علي وجه الخصوص في رحلة البشير الي دارفور التي حاولت مصاحبته فيها علي متن طائرته لكن التقديرات الداخلية لم تسمح.
لكن فكرة وردت إلي ذهني في واحدة من محاولاتي الخمس لمحاورة الداهية حسن الترابي..ماذا لو ذهبت بادعاءات أوكامبو إلي الترابي وقلت له أنت كنت وزيرا للعدل ما رأيك ان تحاكم البشير..كحكم عدل!
الفكرة بدت لي وجيهة من بعدها السياسي لا البعد القانوني بطبيعة الحال،فلايجوز أن تضع واحدا من ألد الخصوم في موقع "القاضي"..لكن الرهان كان علي أن طبيعة الخصومة السياسية ربما ستدفعنا للاطلاع علي الحقائق والاسرار من اقصي الطرفين..وبالفعل قبل الترابي الدور وحكم علي البشير وساق حيثيات حكمه!
ومن الترابي قاضيا.. إلي من تطوع بالقيام بدور المحامي أيضا! أمين بناني وزير العدل السابق ورئيس منبر دارفور من اجل السلام..عرضت عليه حيثيات القضية فتطوع أن يلعب دور المحامي دون أدني تنسيق مسبق لكن في منتصف اللقاء معه فطنت الي حقيقة ما يجري فجاريته..وانخرط البناني مدافعا ب "سيكولوجية" المحامي أكثر منه متبصرا بروح "وزير العدل"..والفرق شاسع!
وضعت الخصومات السياسية جانبا..وحاولت التعامل مع أسوا السيناريوهات الممكنة..ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ أن يدان البشير بصورة نهائية وأن يتم الشروع في اختطافه كما تم التلويح وكما حدث مع الوزير أحمد هارون؟
التقيت د.قطبي المهدي رئيس جهاز المخابرات الاسبق ومستشار البشير السابق وواحد من أقرب الناس اليه،وبطبيعة الحال طغت خلفيته القانونية علي الحوار وانضم لهيئة الدفاع عن البشير لكنه في النهاية رسم لنا احتمالات اختطاف البشير كما طلبت منه،وشرح توزيعات القوات الاجنبية في السودان ومدي فاعلية الاستعانة بكل قوي منها في تنفيذ هذا المخطط وماهي السيناريوهات المضادة التي أعدتها السودان.
ومن الكر والفر مع "القاضي" و"المحامي" و"الحامي".. إلي السيدة مريم الصادق ابنة السيد الصادق المهدي،والكادر المحوري في حزب الأمة،واحد من أكبر أحزاب السودان،و التى اخذتنى معها الي الهم الوطني السوداني وابعاد قضية دار فور وانطلقت من منصتها الوطنية في محاولة لطرح الحلول والمبادرات التي قد تمثل سيناريوهات انقاذ محتملة فيما يجري في السودان.
والتقينا محمد ابراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي السوداني وكانت لنا معه جولة،قرأ لنا ما حدث وما جري وكيف يراه وكيف يقيمه،وأهدي لنا_كعادة الشيوعين_آخر منشورات الحزب والتصور المبدأي لتقرير الحزب الذي سيطرحه قريبا في احدي المحافل الوطنية السودانية.
وأخيرا جلسنا مع المفكر السوداني الاشهر،د.حسن مكي،رئيس وحدة البحوث والدراسات الاستراتيجية بجامعة افريقيا العالمية،وقرأ لنا المشهد برمته من موقع المفكر والباحث المتجرد لا من موقع السياسي المتورط فكان ان نظرنا للقضية من منظرو آخر لم نضعه في حسباننا قبل الانطلاق فيما انطلقنا فيه.
ومن لقاءنا بقطبي المهدي رجل المخابرات الي حسن الترابي واحد من المتهمين الأساسين حسب اعتقاد قصر العروبة في محاولة اغتيال الرئيس مبارك في اديس ابابا عام 1995 استطعنا تجميع عدد من المعلومات الخاصة بمخطط الاغتيال ذاته والحيثيات والكواليس الخفية لما دار بعد ذلك..وهو المشهد الذي استوفيناه من أطراف أخري داخل السودان.
خلال حواراتي الست في السودان،حال الوقت الضيق والازمات المتتالية والمتجددة يوميا من التقاء الصادق المهدي لتباحث الازمة معه شخصيا،فهو بدرجة من الدرجات معني اكثر من غيره بهذه القضية سواء لان دارفور تمثل واحدة من اهم قواعد حزبه الانتخابية او سواءا بسبب الاتهامات التي يكيلها له البعض بأنه واحد من الضالعين الرسميين في تكوين عصابات الجنجويد في دارفور.
وأيضا لم أتمكن من التقاء المشير عبد الرحمن سوار الذهب،لكن لاسباب تبدو كوميدية أكثر منها أسباب منطقية،فالمحاولة الاولي في منطمة المؤتمر الاسلامي باءت بالفشل نظرا لانقطاع التيار الكهربائي يوم أن ذهبنا،ولم يكن احد من العاملين هناك قادرا علي التعامل مع رغبة صحفي التقاء "المشير سوار الذهب" كما يحلو لهم ترديد اسمه مقرونا بالرتبة العسكرية حتي بعد تفرغه لاعمال الخير والبر وابتعاده تماما عن الساحة السياسية.
كان السؤال ملحا للرجل الذي تنازل عن السلطة يوما ما بكامل رغبته احتراما للجماهير للديمقراطية ولوطنه:"هل حل أزمة السودان الحالية أن يترك البشير منصبه؟"..
في المرة الثانية ذهبت لالتقاء الرجل وفق النظرية الحاكمة "يللا نطب حالا"..وفقا للزمان والمكان المحددين كان عليّ التقاءه في التاسعة والربع في هيئة الصف الوطني،والمكان لم يكن بعيدا عن الفندق الذي نزلت فيه في منطقة السوق العربي،لكني ظللت منهمكا في بحث عبثي لمدة ساعة ونصف عن "هيئة الصف الوطني" خلال اربعة شوارع طول كل منها لايتعدي ثلثمائة متر لكن أكثر من ثلاثين سوداني_نصفهم أفراد شرطة_ لم يستطيعوا إفادتي بخصوص مكان هيئة الصف الوطني وكان السؤال الذي تكرر كثيرا علي مسامعي "تريد هيئة الصرف الوطني"؟.
في السودان،أمامك ثلاثة احتمالات..أولا: أن تنفر تماما من كل شيء ولا تفهم ما يجري،بدءا من مياه الصنبور الملوثة وصولا للخريطة السياسية والفكرية لما يحدث.
ثانيا:أن تتورط حتي النخاع في الشأن السوداني بحيث "تتسودن" بدرجة أو بأخري،وأن تعتبر زيارة السودان فرض عين عليك لا يسقط بالتقادم.
ثالثا: أن تفصل جلبابا سودانيا في قلب السوق العربي،وان تسمع لاطراف كثيرة،وأن تشتري الدوم وتذهب الي مقام الشيخ حمد النيل،ثم تنظر للسودان نظرة حب خالصة قبل مغادرة مطار الخرطوم..لا أنت تتمني العودة إليها مرة أخري ولا أنت ستفرط في الفرصة اذا لاحت ثانية!
نص افتتاحية رحلتي الي السودان،منشور بصحيفة البديل اليومية المصرية،التي أعمل بها كما تعلمون