90s fm

الجمعة، 28 أكتوبر 2011

لفتة حسام الأخيرة.


كل الطرق مؤدية إليك يا حسام، ما من مكان أمر به إلا وأتذكر لنا شيئا فيه.
ذرعت كل الأرض بذكرياتك، فلم يبق لي منها شيء إلا مصطبغ بضحكة منك، بفكرة منك،بواقعة معك، بجلسة بجوارك، فكأنما أنت كل شيء في طريقي، وكأن ملمحك مخيم على كل شيء.
أدركت لفتتك الجميلة الأخيرة لي.
وصلت الصلاة عليك متأخرا والمؤذن يرفع الأذان لإقامة صلاة الظهر، بعد، دخلت عجلا وجلا، لأجد نفسي في الصف الأخير ولأجدك مسجى بجواري.
جثمان شجاع في نومته الأخيرة..لم تكن مهزوما..كانت نومة محارب لا ضجعة واهن.
كنت أنا الأقرب إليك يا صاحبي.
أقوم وأسجد، وتخنقني عبرة لمستك الأخيرة..أنت أخرتني لتجعلني بجوارك فكأنما صف الصلاة الأخير أنا طرفه وأنت استتمامه!
ولولا العيب، لاقتربت منك ألامسك..ألم يقل تماسوا تراحموا؟!
نسلم عن أيماننا تسليمة الخروج من الصلاة وألتفت إليك فإذا يدي تتناولك أول ما تتناولك الأيدي لتقديمك للصلاة عليك..حملتك أنا يا صديقي على كتفي، وأنا أعرف أنك اخترت من يحملك.
نضعك كي تصطف صفوف الصلاة وأنا غير مصدق..أنا حملتك يا حسام للصلاة عليك؟
أحملك مرة أخرى لنخرج من المسجد، وأنا ألمح وجهك في ملامح أقاربك الذين يقتسمون شبهك، فألملم وجهك من ملامح شتى، ويلتئم منثورك الجميل في خيال واحد لا تنقصه نضارتك ولا تعوزه ابتسامتك الوقور.
في الجنازة كثيرون بكوا..إلاى.
ربما لأن يقيني أن أفضل أيامك ستبدأ حين نتركك هنا.
أما نحن فأيامنا بدونك فيها مرار غريب.

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

ما لا يحتاجه حسام تمام..ونحتاجه نحن.



رحل حسام تمام، هو لا يحتاج الآن شيئا، في حين نحتاج نحن.
برحيل حسام سأفتقد أول من نشر لي مقالا، وأول من اصطحبني من يدي لجرنال، وأول من ساعدني-صحفيا- حين سافرت خارج مصر، وأول من تناول مخطوطتي الأولى، ليدفع بها لدار الشروق عساها تستحيل كتابا منشورا.
أفتقد أول من ارتكزت عليه في حياتي العملية، وأول حدد عيوبي المهنية بدقة واضحة( كان يقول العيب كأنه المدح!)، وأول من انحاز لي دون توضيح الدوافع.
زيارتي الأخيرة له في 6 أكتوبر الماضي في مستشفى الشيخ زايد كانت زيارة وداع لم ألتفت للإشارات الإلهية الكامنة فيها، كنت أرى وجهه فيها نيرا هادئا، رغم السرطان البشع الذي يجتاح خلاياه.
وكنت أشفق دوما من اللحظة التي أنا فيها الآن..أن أرثيه.
وأفهم قول شوقي في حافظ إبراهيم: قد كنت أوثر أن تقول رثائي..يا منصف الموتى من الأحياء.
تبتديء الزيارة دوما وهو مرهق من إثر المرض، لكنه يغير وضعية جلوسه-كل مرة- في أقل من 15 دقيقة، لينخرط في النقاشات المدبرة التي كنا نجرجره فيها، فيزدهر وينهض ويبدأ الحكي فلا ينتهي..
حقائق ومعلومات ومقابلات وكتب وقراءات وذكريات وأحاديث خاصة وأشعار وأحاديث وروايات وتفاسير..إعصار معرفي جارف هذا الرجل!
نتركه وقد استحال من صفرة المرض لحمرة الحماس..ونستأذن لنجيء بعد اسبوع أو اثنين.
دوما كان يشاكسني: حمادة ياعفريت!
يسألني: أخبار عبد الوهاب المسيري إيه؟
فنضحك سويا..يوميء من طرف خفي إلى حياتي العاطفية..يسألني هذا السؤال الكودي مذ تعمدت صداقتنا في 2004، وللكود واقعة عاطفية كانت تضحك كلينا حتى الإنهاك..لدرجة أنه أطلع الراحل عبد الوهاب المسيري على استخدام اسمه بصورة كودية للتعبير عن توصيف درجة من درجات العلاقات العاطفية..فرد المسيري بخفة دمه وسرعة بديهته وصفاء نفسه: أنا ممكن أتدخل شخصيا في الموضوع مش اسمي بس.
يضحك ثلاثتنا (اصطحبني لمنزل المسيري مرة، ورتب لي لقاء منفردا معه في منزله مرة، ورحل كلاهما عني، لأضطر-وما أقبح اللغة في هذا الموضع- أن أقرن حكايهما معي بقولي: ذات مرة).
أتذكر ملابسة المعرفة الأولى حين نشر لي مقالا في إسلام أونلاين، كنت طالبا جامعيا متدربا حينها، بعدما أعاد تحرير بعض أجزائه، الأمر الذي غير المعنى في بعض المواضع.
أرسلت له "إيميل" حاد: التعديلات غيرت المعنى بما لايتوافق مع ما أقصده، من فضلك: إما أن تعيد النص إلى ما كان عليه سابقا، أو أن تحذف اسمي من عليه، أو أن تحذفه مطلقا، ولحضرتك حق التعامل معي مرة أخرى من عدمه.
ضحك وأجرى التعديلات ثم عزمني على الغداء: سأجرى التعديلات لو لم يكن لصحة موقفك العلمي، فلأنك جدير بهذا..لو لم تدافع عن وجهة نظرك (أيا كانت) لما كنت احترمتك..ولو لم تكن بشجاعة أن تطلب حذف أول مقال ينشر لك في حياتك، لما كنا معا الآن.
كانت دوما لقاءاتنا مدموغة بطابع احتفالي، فهو يعزمني أو أعزمه (كان يعزمني هو أكثر بالطبع بموجب 13 سنة عمرية فرق تضعه دوما في تصنيف أخ أكبر).
وكل لقاءاتي معه ملحمية، دوما معه أصدقاء من المغرب أو لبنان أو السودان أو موريتانيا..دوما هناك أصدقاء من كل مكان في العالم، نجلس سويا وتروح الأحاديث وتجيء طوفانا من المعرفة والآراء، وكل الجالسين دوما يوقرونه ويحترمونه.
عهدته حادا في الحق، صارما في قيم المهنة، رجلا بالمعنى الحرفي للكلمة.
قال لي جملة تأسيسية في وعيي: الفيصل سيكون في قدرتك على التحليق خارج السرب..أن تنفصل وأن تغرد بمفردك..هذا هو تحدي حياتك..فقط عليك أن تمتلك الشجاعة.
ثم نظر إلى مدخل إحدى بنايات الصحف القومية التي نستقل المقهى المقابل لها: لو صاحبت بواب مؤسستك وكان صادقا معك،خير لك من أن تصاحب رئيس تحرير منحط.
كان دوما محل ترحاب وتقدير واحترام، لا ينال من غيبته إلا مجايليه من الحاقدين عليه، وكانوا من التفاهة بمكان بحيث يبدو كلامهم سخيفا سفيها..(وإذا أتتك مذمتي من ناقص..فهي الشهادة لي بأني كامل).
أتذكر بياتي معه ذات مرة في شقته-قبل أن يتزوج- وأنا أحاول إقناعه بمشاهدة فيلم أمريكي رومانسي : فكك من الإسلاميين بقى شوية يا أستاذ حسام.
-وريني ياحمادة ياعفريت.
يطلب إيقاف الفيلم في منتصفه ويسألني عن عن أحوالي العاطفية..أحكي وتبرق عيناه وتتسع ابتسامته..فيقول لي: ادخل نم أيها العاشق.
أستيقظ وأستأذنه في قرصنة بعض كتبه..أفاوضه كثيرا مفاوضات تؤول لصالحي..ويترك كتبه عن طيب خاطر وصفاء نفس.
يتناول كل شيء بملكة تحليلية نادرة.
كان المسيري يصفه لي بأنه استثنائي، وكان هيكل معجبا به لدرجة مدهشة.
اختار المسيري ثلاثة مقالات له وأرسلها لهيكل، الذي استقبل حساما في منزله، وأبدى ثلاثة ملاحظات نافذة لحسام، استأمنني عليها حتى اليوم. إن كانت تشي بشيء تشي بأن حسام عملاق وبأن هيكل ذكي ذكاء نادر.
وطنيا حسام كان لأقصى ما يتخيله عقل، كان يشتبك مع كل من يشكك في مصر حد الاقتتال، ويحلم بمصر غير مصر.
في السر كان يدبر مع بعض الأصدقاء دعم ترشيح مفكر مصري كبير لجائزة عربية كبيرة، فكان يصرف من جيبه الخاص على إرسال خطابات الترشيح للخارج، وحين يتم هو والفريق السري عمله..كنت أذهب إليه وآخذ منه المظاريف وأتوجه بها لأقرب نقطة بريدية..ويملؤنا الأمل في أن يفوز بها المفكر المصري العظيم..لأنه بحاجة ملحة إلى المال قبل التكريم!
ومثلما ترك كليتي الإعلام فالاقتصاد والعلوم السياسية ليستقر في كلية الآداب جامعة الإسكندرية..كان يحل من مكان لمكان طائرا مرتحلا..تنشر مقالاته الصحف العربي والإنجليزية والفرنسية، وتستضيفه الندوات والبعثات..وكان دوما متألقا بلا شبهة خفوت عابر حتى.
وعلى خلاف ما يبدو على مظهره الرجولي الصارم، كان ودودا لطيف المعشر يهوى النكات ويحفظ الشعر ويجيد اصطياد المفارقة.
وحين أجيء على نفسي وأكبح دموعا عاتيات لأكتب هذا، فأنا أكتبه لأننا بحاجة إلى أن نقول أن هنا بيننا كان صحفيا جيدا..كان بيننا شخصا لا يماري..كان بيننا إنسانا رائعا..ينبغي أن نتوقف لنثبت الحالة في تاريخنا..ولنقول أن كل قبح العالم يمكن أن يزول بشيء واحد جيد يفعله شخص واحد جيد..ينبغي أن نترك الحقيقة منشورة..كان بيننا شخصا رائعا بكل ما تنطوي الكلمة عليه من معان.
وأخيرا: ناقشته آخر مرة التقينا قبل إسبوعين ، حول العنوان المفترض لكتابه الذي كان على أبواب النشر، بعدما أطلعني على فصوله، واستمع لوجه نظري حول أمثل طريقة لتبويبه، فقلت له: ينبغي أن تكتب فصلا إضافيا فنظر لي ساعتها مبتسما وفي عينيه بريق خافت: مفيش وقت.

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

مرامي والدموع سوابقُ

أنا الصورة الصغرى عن غيبتك الكبرى، ومرادك إذا كان البأس بأسك لا يرد.
لا تحتجب سترا فتقتلني.
بح لي بسرك فالأكوان تمتثلُ.
إياك، إلاك.
لا تنتهر روحا قد انغلقت، إلا إليك سوابرها فقد تيمت.
آه...آه...آه
كل الكوائن أخبار معللة، إلا الفناء يصير عليك مثقالي.
(فهو المثالٌ الفرد عن أوجه غيبى/طباق الشكل ليس شبيها فيشبهه/ آماده جلت عن التوصاف معذرة/ (لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم).

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

حين يطهو السيد دودي على طريقة مقاتلي أمريكا اللاتينية.




لا يصعب الاستدلال على آثاري في المطبخ.
تخيل أن فيلا قرر أن يلعب استغماية في مع وحيد القرن. لافرق أيهما سيختبيء وأيهما سيبحث عن صاحبه.(المطبخ مساحته نحو 8 متر مربع).
الدقيق منثور في الأرض بكفاءة مدهشة، بينما تنطبع بصمة قدمي عليه، كأنما أترك خريطة واضحة لتحركاتي، حتى يستطيع محققو الشرطة إنجاز تقرير وفاتي إذا ما تأزمت الظروف هنا.
الزيت يغطي نصف الرخامة، والأطباق والحلل متراصة جوار بعضها كأنما هو عرض فني في مهرجان "الفوضى ملكة نادرة".
عادة أجري بعد فتح البوتوجاز، لأني لا أقدر المسافة الصحيحة للوقوف منه، ولا من اللهب، ولا من درجة النيران المطلوبة. سيما أن يداي تقطران زيتا (الذي انسكب منذ قليل)..وقطرات الزيت مع النار تثبت يوما عن يوم حقائق فيزيائية ثابتة.
لأني لم أتعلم الطبخ مطلقا، ولأني لا أهتم بالمطبخ بتاتا، كان لزاما علي اكتساب عدد من المهارات المكثفة في وقت سريع جدا، نظرا للظروف التي طرأت على حياتي.
أمسك السكين (كأني نابليون بونابرت) لأحيل الطماطم إلى شرائح متساوية هندسيا على نحو عجيب، فتكون النتيجة دوما أنها تنفعص مني فتستحيل صلصلة على نحو مثير.
أضع خلا بدلا من الزيت فيزداد الأوار، وأجرح يدي في تقطيع البصل، فيسيل دم ودمع ومخاط بريء نظيف.
أتحرك بكثير من التعثر، يندلق الملح، وأضع الفلفل الأسمر بكميات أكثر من المطلوب، ويلسعني ملمس الأوعية على النار.
أنفض عن نفسي هاجس أنني شخص فاشل، أو أن نجاحي في المطبخ محل شك.
أصيخ السمع:
صوت التقلية على النيران، له وقع موسيقي منتظم، وصوت غليان المياه يداخله بتناغم مدهش.
أدقق النظر:
الدقيق الأبيض في الأرض يعطي ملمحا خلابا. بقايا الطماطم المفعوصة/ حبات الثوم المتراصة حواليها كأنها النجوم، زرقة لهب البوتوجاز.
أنا في مشهد نادر الجمال!
أقرر استعادة زمام الأمور ويتلبسني شعور غامض بأنني مقاتل في أمريكا اللاتينية، كما كان جد ماركيز في استعلائه الطفولي ( لايرتدي السترة العسكرية لأن رتبته ثورية وليست أكاديمية).
أغير درجة إضاءة المطبخ، بحيث تصير أكثر ظلمة أو أكثر إنارة.
أعيد رص وترتيب عناصر الطبخ:
وأتذكر الدرس الأول الذي لقنني الصديقي إياه: الطاهي المحترف يختار سكينه أولا، ثم طاسته المفضلة ثانيا، وينظف كل شيء أولا بأول، بالتوازي وسريعا.
ثم يحضرني الدرس الثاني الذي دربتني عليه صديقة: اختر عصا التقليب لأنها الرفيق الأكثر التصاقا بديك طوال رحلة الطبخ.
أراجع الخطوات، ألف حوالي نفسي، وأتناول العبوات والأكياس بأطراف أصابعي كأنما أنا راقص باليه.
(كل عروض الكونغفو التي تدربت عليها صغيرا، مازلت راسخة في وجداني، وللمفارقة يدعون الكونغفو كثيرا بالباليه العنيف!)
أضع كميات من العناصر لا أدري إن كانت متناسبة أم لا، بينما أغمض عيني وأبتهل بعمق من داخلي لأن هذا الأكل سيتناوله آخرون من أصدقائي.
أنا من الممكن حال فشل كل شيء أن أنجز ساندويتش جبنة وأن أشرب كوب شاي وسأحس بالرضا التام والسلام الداخلي، وسأسامح العالم أجمع على كل شيء قبل أن آوي للفراش.
أبتهل بينما حسي العسكري الافتراضي الداخلي يرشدني إلى المقادير. روحي تنبأني بأن قليل من الملح مفيد، إلهامي يقول لي أن نفحة فانيليا على اللحمة ستفعل شيئا ما سحريا في المذاق النهائي، تتغشاني أفكار لا أردها حول ضرورة إضافة عنصر أو زيادة مقداره.
يتحول الأمر لحالة من الصفاء التام..نيرفانا..طبخ على وقع همسات السماء.
أتذكر كل الحب الذي أحبه لأصدقائي وأتوسل به لمن في السماء يراقب فعلي.
أضع الأكل على الأرض (أحب أنا وأصدقائي أن نأكل على الأرض وأن نلطخ كل شيء حوالينا، سيما ريموت التلفاز) وأترك للأقدار أن تحدد كل شيء بعد بسملة بدء الطعام.
20 دقيقة تمر، بينما الكل سكارى من روعة الأكل.
أقول أنا قائد عسكري متمرس في المطبخ، أنا غير قابل للانهزام، إلهامات السماء تدعمني.
لكن يدي تنزف مرة أخرى. وأتذكر أن الجحيم بانتظاري في الداخل كي أنظفه!

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

لماذا أتكلم بطريقة شفرية؟




ربما هم محقون: أنا لا أتكلم بطريقة مفهومة تماما أو على نحو واضح.
بالنسبة لي أرى نفسي واضحا جدا، لكني لا أكلم نفسي.
أعيد ترتيب الأمور والملابسات، وأتقصى مسار الجذور فأفهم الأمر بصفاء كامل.
أولا: كنت أحفظ القرآن على يد صديق صوفي يكبرني بنحو 15 عاما، كان يقطع بي طرقة المسجد من أوله لآخره بينما يلقنني آي الكتاب، كان لايقول شيئا أبدا بطريقة مباشرة لأن المباشرة فيها نوع من الصلافة وفيها افتراض لضعف الذكاء الطرف الآخر.
فالقاعدة الأخلاقية تقول أن عليك أن تلفت الآخرين إلى الأشياء برفق وبنحو غير مباشر كي لا تجرحهم.( قل أن الجو بارد اليوم، كي يستنتج فلان أن عليه أن يغلق شباك النافذة)
كان يصحبني دوما لعالم المجاز والحديث المرمز، حيث يتحدث أئمة الصوفية بلغة نصف ملغزة، لغة تشي ولا تحدد، لغة ضنينة شحيحة، تحتاج لمكابدة لفك طلاسمها، فحفظت المقاطع والمتون، وأصبحت هي لغتي في مخاطبة من حولي.
ثانيا: كان وضع أبي تحت المراقبة والتجسس، وكانت رحلاتي له إلى المعتقلات التي يحل عليها واحدا تلو الآخر ، دافعا كبيرا كي أخترع لغة مشفرة أستطيع التواصل بها معه دون أن يستوعب الرقيب حرفا. فكنت أخلط كلماتي بكلمات مهجورة من وحشي اللغة، وأمازجها بألفاظ غريبة من لكنات عربية أخرى، مربكة الوقع الموسيقى على الأذن المصرية،وأعمد إلى خلطها بأنصاف أبيات شعرية باستهلالات أحاديث بكلمات مفتاحية في مواقف شخصية.
أبي بذاته يسمع نصف الجملة من أي شخص ويستنتج نصفها الآخر، إلاي، يسمع أول كلمة فيفهم مرماي فورا.
(ذات مرة هددني الضابط و.ف مسؤول أمن الدولة في معتقل طرة، وقال لي: تحدث بطريقة مفهومة لي وإلا..، فقد كانت الزيارة كلها خاضعة للمراقبة).
ثالثا: أنا بطبعي، أختار من أتواصل معه، ولا أعتبر التحدث مع الآخرين أمرا طبيعيا، ينبغي أن أفكر قبل أن أستهلك نفسي وعمري في الحديث مع شخص تافه أو سخيف او مغير لي أخلاقيا وقيميا (العمر قصير جدا كي أحرق دمي)، ومن ثم كنت دوما أتحدث بطريقة مثيرة للنفور والملل، درءا لاجتذاب المستهلك العام.
رابعا: تعودت مع المقربين مني أن يستوعبوني دون أن أتكلم، ربما لأن كل ما يختلجني يظهر على وجهي بسهولة فائقة، تفهمه القطط في الشوارع وتستنتجه الأسود في الغابات، وتقرأه النسور من أعالي الجبال، ومن ثم لم أجد ضرورة لتطويع اللغة للتعبير بها عن الاحتياجات العادية للآخرين، فالدائرة اللصيقة تستوعبني جدا.
خامسا: لا أركز عادة في حديثي، لأني لا أتكلم مع من أمامي فحسب، بل أخاطب كثيرين غيره (ليس ذنبي أنه لايراهم)، لذا أنا أقول نصف جملة بطريقة نصف مفهومة، ظنا أن كل الحاضرين استنتجوا النصف الثاني، بينما في حقيقة الأمر أنا لا أكلم إلا نفسي.
ومن ثم وبناء على ما سبق، فقد قررت أن أكمل طريقي على نفس النحو، وليفهم من يفهم، وليستغلق الأمر على من يستغلق عليه، فأنا لا أريد الكلام مع كل أصدقائي البشريين في الكوكب الأرضي بنفس المقدار من الرغبة.

الخميس، 20 أكتوبر 2011

مخبوءات السيد دودي




قلتها مسبقا أكثر من اثنتي عشرة مرة: أكتب لنفسي قبل أن أكتب لغيري.
هنا أدون وأوثق حالات التيه: تيه السعادة وتيه ما سواها، كي أتأمله فيما بعد، ربما أفهم ما جرى.
كتابات علاجية، تتقافز الظباء والغزلان من سطورها، وتمرح الأفيال من حولي، ويناولني بندق فيها صينية بسبوسة،ويعزف ميكي لي فيها على البيانو، أخلق حولي عالما جميلا، أدخره للحظات صعبة.
صغيرا كنت أقوم بفعل غريب.
أخبيء أموالا وأغراض شخصية في ميادين عامة!
كنت أذهب لأقرب ميدان من بيتي، وأدس نقودا تحت حجر معين (ِشبه مخلخل) وأستردها بعد أيام وسط ذهول المارة والواقفين.
كنت أنحني وأتناولها كما لو أنني أتناولها من على منضدة منزلي، دون أن آبه لمن حولي.
ودوما ما أخبيء العسلية والشيكولاتة..أنثرها بصورة غير متجانسة في الأماكن التي يحتمل أن أتعامل فيها بكثافة (أدراج المكتب، دولاب الملابس، حقيبتي، حقيبة صديقي الذي يشاطرني الطريق....) بحيث دوما تكون هناك مفاجآت سعيدة بانتظاري.
وأضبط على هاتفي المحمول رسائل تذكيرية أحدد موعدها بعد شهور قادمة يكون مضمونها عادة رسالة رقيقة أو رسالة داعية للتفاؤل، أوجهها لنفسي.
تخيل أن تجد هاتفك يرن..لتفتح رسالة التذكير فإذاها رسالة مضى عليها 4 شهور: من فضلك ابتسم فكل شيء على سيكون على مايرام.
وعلى نفس الوتيرة، هناك ملفات "ورد" علاجية مثيرة للبهجة أحتفظ بها لأوقات أنا أعرف أنها ليست سهلة.
هناك، أجندة معينة، دونت فيها كل كلمة حب قيلت لي واستوقفتني، أكتب الكلمة وقائلها وتاريخ قولها لي.
هناك مخزون استراتيجي من البهجة أستعين به في اللحظات المرتبكة.
أقرأ الملفات غير المنشورة، أتناول الشيكولاتة المحتمل وجودها في هذا الركن أو ذاك، أسمح لكل الغزلان والشخصيات الكارتونية أن تمتطي الأفيال وتجيء لتغفو بجوار سريري في كسل ودعة، ثم أبدأ رحلة استجمامية قصيرة، عادة ما أقوم فيها بعملية مسح مؤقت لمقاطع معينة من الذاكرة.
لم أقول هذا كله الآن؟
لأنني بالصدفة منذ قليل تعثرت في حجر رصيف شبه مخلخل. فملت كي أعدله حتى لايتعثر فيه سواي، فإذاي أجد جنيها معدنيا هناك.
ابتسمت، وتركته مكانه.
لابد أنه يخص ولدا ما، خبأه هنا كأنه وضعه على منضدة بيته.
وسيكتب مستقبلا لنفسه ملفات بهجة علاجية.

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

انثناءة الخط..لماذا تتبعه القصد الإلهي؟



"الطلة"..هكذا يمكن أن نختصر الومضة الروحية المنبعثة من شخص ما، والتي تتلقاها آلات فك التشفير داخل كل منا، فتترجمها لانطباع ما، لا يلبث أن يصير حقيقة راسخة في وجداننا.
أحيانا تأسرنا صورة شخص ما، أكثر من وجوده هو شخصيا، وأحيانا العكس.(قلة من تتعادل الأمور معهم فيصير حضورهم طاغيا كصورهم أو العكس)
أقول هنا، الصورة بنت إحداثي معين.
(زمن الالتقاط-حالة الشخص حينها-هل يوجد ملائكة عبرت مجال التصوير أثناء الالتقاط أم لا؟-نية المصور نفسه-التناسق اللوني بين الملابس والخلفيات-حركة الجسم- الإرادة الإلهية الكامنة في الأثر المنبعث عن الصورة فيما بعد........)
الرسم—رسم الشخص نفسه، كيف سوى الله خطوطه، فتمايل المستقيم وانثنى حتى تشكلت هذه الهيئة، وحتى استبان ذاك القوام.
هذا الرسم، كأنك تنظر لمن أمامك سيلويت، وهذه الومضة، حين يستحيل كيانا كاملا أمام عينيك، كل هذا..هذا كله.. ما أدعوه اللمسة الإلهية في الروح.. يتجلى الله في المخلوقات يا صفية.
(وما نظرت في عينين سواهما الله إلا ورأيت بصمته).
أحيانا تتكاتف كل الإحداثيات ضدك..لكن بهذه الطريقة؟
بانثناءة الخط في تشكل الهيئة؟ بانبعاثة النور من عينين وديعتين أبدا؟ بمرور ملاكين متقابلين ضاعفا الإضاءة الخفية؟
أنا أشك الآن في أن القصد الإلهي يتتبعني.
حسنا، سأجن أو سأقتل نفسي، أو فلتمح ذاكرتي..كما فعلنا في كل المرات السابقة..فالآن لا أقوى على ذلك يا حسن..الآن لا أقوى يا زينب.

الأحد، 9 أكتوبر 2011

21 دقيقة وسط الرصاص.. مشاهدات من فتنة ماسبيرو (9-10-2011)

طوال 21 دقيقة وقفتها هنالك، كان هزيم الرصاص يرج القلوب فوق كوبر أكتوبر، هتافات تتردد ونيران تتأجج وحشود تتراجع، وجموع تعيد لم شملها مرة أخرى.
أقباط فقراء (من الذي يحشد كل هؤلاء الفقراء؟) يهرولون تجاه الكوبري، فيما يبدو فرارا من مواجهة محتدمة أمام ماسبيرو، ثم سيارة نقل كبيرة تتحرك بسرعة غير عادية، كأنها تهرب من الجحيم عند ماسبيرو، بينما يحتل ظهرها نحو 30 شابا قبطيا يتوسطهم صليب خشبي عملاق.
شابان قبطيان يقفان خلفي، ويحاولان إجراء عدة مهاتفات (مع ذويهم على ما يبدو)..أسأل أحدهم ما هناك فيقول لي: الجيش ضرب نار..في مصريين كتير أوي ماتوا.
"مصريين كتير أوي ماتوا" يقولها ليوجد أرضية مشتركة من التعاطف بيني وبينه..كأني بحاجة للتأكيد على أن الأقباط مصريين.
"مصريين كتير أوي ماتوا" يقولها كأنه يعتذر عما جرى، معترفا أن الجثامين بالأسفل ضحية خطأ محوري يتقاسم إثمه كثيرون.
كل هذا يجري، بينما مراكب الرحلات القصيرة على ضفاف النيل، مازلت تبث أغانيها الشعبية بمكبرات الصوت البغيضة، كأن لا معركة هناك على بعد 200 متر.
نحو 20 قبطيا يجيئون جريا من عند ما سبيرو، إلى حيث أقف منتظرا صديقي وأطفاله الصغار فوق الكوبري، ولا أستطيع التحرك من مكاني كي ننطلق بأقصى سرعة ، بالصغار قبل أن يفزعوا أو يصيبهم مكروه.
هزيم رصاص
ثم جماعات أقباط يجرون كأن ورائهم الفزع
ثم مكبرات الصوت من المراكب: " في الأول جرجرتك"
سيدة مسيحية نصف بدينة ، في الأربعينات من عمرها، تجري ومعها ابنتها التي لم تكمل العشرين ربيعا، بينما يلحقهم شباب آخرون عليهم علامات الإعياء.
"من خيبتك خدرتك"
يجيء صوت الرصاص من الناحيتين..الخلف والأمام.
أنظر خلفي فإذا أمين الشرطة المسؤول عن إشارة المرور لم يتحرك من مكانه قيد أنملة، رغم ضجيج العراك.
فجأة تبزغ من العدم مركبة عسكرية ضخمة (مدرعة) فتدعو عليهم السيدة المسيحية البدينة: إلهي يتشلوا.
يهرول شاب مسيحي: ولاد الوسخة بيضربوا فينا..أوسخ من الشرطة..أوسخ من الشرطة.
"بقيت تعرف تكدب و بتلعب على جارتك"
تتحرك الدبابة بغضب واضح، كأنها ستسحق كل شيء أمامها، كأن شيئا ما يستفزها من ورائها، لكنها لا تفعل أكثر من المشي بلا وجهة.
وفي مشهد سينمائي بجدارة، تنزلق قدما حصان يجر حنطورا، أمام الدبابة الغاضبة العمياء.
أزيز احتكاك حدوته بالأسفلت يتداخل مع زمجرة المدرعة.
فيقف قائد المدرعة لا يتحرك..يحاول الحصان النهوض..وإشارة المرور متوقفة تماما..كأن كل شيء شل فجأة.
أسمع جلبة، فأرى شابا قبطيا يضع سلاحا أبيض في جيب بنطاله الجينز الخلفي.
"وبقيت تلعب بوكر"
أقفز في سيارة الصديق وأطمئن على الصغار، وندير مفتاح المذياع، بينما في الخلف أقباط فقراء..لا أعرف من حشدهم باسم الدين، يحتجون على ما فعله مسلمون فقراء لا أعرف من أقنعهم أن هدم الكنائس من صحيح الدين.

الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

أنسنة الإسرائيلي..ترقيم العرب..كيف يخاطب نتنياهو العالم؟







قبل عام ونصف تقريبا، انتحر موشيه ياتوم الطبيب النفسي الخاص ببنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، ودوًن ياتوم في مفكرته اليومية عذاباته الشخصية مع بنيامين، وفقا لما سربته شرطة التحقيقات الإسرائيلية للصحافة، والتي تظهر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مريض نفسي في حالة متدهورة للغاية.. يخلط بين الأردنيين والفلسطينيين ولا يتذكر الوقائع التاريخية على وجه الدقة، ويعتقد أن كل المحيطين متآمرون عليه حتى طبيبه النفسي.
الأمر الذي كان يدفعه لتعذيب ياتوم وتقييده وحبسه في قبو فيلته الشخصية، وتهديده بالقتل. ثم الاعتقاد أن منزل ياتوم هو منزله الشخصي، إلى أن ينشغل عن تعذيبه بحفلات غنائية صاخبة وماجنة، ما دفع ياتوم بعد فترة للانتحار في سابقة مدهشة، ينتحر فيها الطبيب لا المريض!
ومنذ هذا الحادث الغريب، كنت أندهش كيف يتعامل رؤساء العالم (مبارك خاصة حينها) مع هذا المريض المعقد، وكيف تتعامل حكومة إسرائيل نفسها معه، وكيف يسير الكيان الصهيوني شؤونه في ظل هذه القيادة المعطوبة.
(فيما بعد عرفنا من وثائق ويكيليكس أن ساركوزي لايفرق كثيرا عن "بيبي"/اسم دلع نتنياهو)
تجددت هذه التساؤلات بعد خطابين مدهشين ألقاهما نتنياهو على مدار الشهر الجاري، استوقفاني بشدة وعمقا الكثير من التساؤلات بداخلي.
الخطاب الأول الذي ألقاه حول أحداث اقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، والثاني خطابه أمام الأمم المتحدة بخصوص إعلان الدولة الفلسطينية.
تحدث في الخطاب الأول الذي أذاعته القناة الثانية من التلفزيون الإسرائيلي قبل ثلاثة أسابيع تقريبا حول دور أحد ضباط حراسة السفارة الإسرائيلية بالقاهرة ويدعى يوناثان، قائلا : إن يوناثان كان مع ستة من رجال الأمن الإسرائيليين ولم يكن يفصل بينهم وبين الجمهور المصرى الغاضب الذى اقتحم المبنى سوى باب واحد.
وأضاف نتنياهو أن الضابط الذى كان يتحلى برباطة جأش قال له إذا حدث لى شىء فأرجو أن تخبروا أبى وأمى وجها لوجه وليس عن طريق التليفون، فأجابه نتنياهو واعدا بأنه سيحرك كل القوى فى العالم ليضمن عودته مع زملائه سالمين دون أن يمسهم مكروه، وأنهى نتنياهو القصة بالذروة الدرامية عندما قال: «ولقد تحدثت مع الاثنين اليوم» وبهذا اختتم خطابه متمنيا ليلة سعيدة لشعب إسرائيل.
والترجمة المورد أعلاه هي ترجمة د.إبراهيم البحراوي أستاذ الشأن العبري بجامعة عين شمس ، وسنعتمد على ترجمته أيضا لخطاب نتنياهو أمام الأمم المتحدة، والذي تطرق فيه لقضية الجندي المختطف بواسطة حركة حماس "جلعاد شاليط" فقد قال نتنياهو : "إن جلعاد شاليط هو ابن نوعام وافيفاه شاليط وهو حفيد تسيفي شاليط أحد اليهود الذين نجوا من النكبة النازية (الهولوكوست) والذي وصل إلى البلاد في سنة الشباب عام 1930".
الشاهد من كلا الخطابين هو "أنسنة " نتنياهو لكل من "يوناثان" و"شاليط"..أن يتعرض لهما ويدعو للعالم للتعرف عليهما بوصفهما بشر من لحم ودم ومشاعر، ورائهم ماض وأمامهم مستقبل، لكن العرب يعرقلون ويعترضون مسيرة "حياتهم"
فيوناثان: (رابط الجأش) صفة إنسانية..
له أب وأم..فكيف لا تتعاطف من موقع الابن أو من موقع الأب والأم؟
وإذا مات (هذه الحقيقة الانسانية الموجعة التي لا تفرق بين الأجناس والأديان) يرجو أن يخبروا أمه وجها لوجه (دراما فائقة؟)
فجاء وعد نتنياهو بتحريك العالم أجمع : ضمير البشرية في هذه الحالة.
ثم النهاية السعيدة للأخيار: ولقد تحدثت مع الاثنين اليوم!
ثم نجيء لشاليط، الذي تناوله نتنياهو من زاوية جديدة علينا، فهو لم يعد "الجندي المختطف لدى حركة حماس" هذا التعريف المقتضب الذي بات لفرط تكراره عديم المعنى والتأثير.
فشاليط: ابن نوعام..له أب وأم مثلنا جميعا.
وجده :تسيفي..هناك تاريخ وأجيال تعاقبت حتى جاء شاليط فهو لم يأت من الفراغ. كما كان هذا الجد شابا يوما ما ( من منا لا يتعاطف مع الشباب وأحلامهم).
وقد جاء عام 1930: قبل بدء إنبثاق اسرائيل ب18 عاما فهذه أرضهم أصلا!
وجده هذا نجا من الهولوكست: وفي هذا دراما خاصة، وإسقاط خفي، فالعرب المختطفون لم يرحموا سلسال تسيفي، وكأنما هم يستكملون ما فشل فيه هولوكست هتلر..ومن ثم فلتوقف أيها العالم هذا الجزء الثاني من الهولوكست!
(إذا: كلاهما (يوناثان وشاليط) لهما أب وأم..وينتظران مصيرا ما، فلتتدخل أيها العالم)
هنا علينا أن نفهم أن إسرائيل "تؤنسن" أبنائها، وتخاطب العالم باللغة التي تؤثر فيه..بينما ندبج نحن المقالات ونسوق الأرقام المفزعة حول وفاة 87687 فلسطيني وتجريف 98798 فدان زيتون وهدم 98876 منزل!
نحن نحدث العالم عن أرقام لا تعني أي شيء ولا تثير-بذاتها- تعاطفا، وإسرائيل تحدث العالم عن "الإنسان".
لقد تم اختزال قضيتنا في مجموعة أرقام صماء، بينما حولت إسرائيل قصتين عاديتين إلى شيء ملحمي مؤثر.
وإسرائيل في هذا، تسير على خطى الميديا الأمريكية، التي عمدت مبكرا إلى أنسنة قصصها الصحفية، كي تتمكن من مخاطبة قارئها وإثارته.
فالصحافة الأمريكية هي التي تهتم دوما بتفاصيل من نوعية (حذاء جاك الذي تمزق/ شطيرة جون التي عطبت/أحلام ميشيل التي تحققت/ غرفة باربارا الضيقة) إلى آخر هذه التفاصيل المسيسة بحياة الإنسان فعلا.
( في صحافتنا تجد عناوين بليدة من نوعية: الخريجون الجدد لا يجدون عملا! ما هذا الملل والسخف؟)
حتى مع مرض نتنياهو وخباله، هناك إرادة عمل إسرائيلية، وقدرة على فهم العالم وإيجاد طرق لمخاطبته.
أذكر أن رجلا إنجليزيا كان صديقا لصديق لصديق، حين استمع لأحد خطابات عرفات التاريخية أمام الأمم المتحدة قبل سنوات، اندهش من تكرار عرفات لبعض الجمل وراء بعضها البعض (وهذا ندعوه في العربية ضربا من البلاغة "الأرض الأرض" أو فيما بعد "الحضن الحضن بلوبيف مي بلوبيف مي) فما كان من الإنجليزي إلا أن أحس بالضجر وقال: لماذا لم يجهز خطابه بصورة جيدة؟ لماذا يكرر مقاطع كلامه؟ هذا استهتار!
متى نتكلم نحن اللغة التي يتحدثها العالم؟

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

لماذا أنا فيل؟ قراءة في الافتراس والانطواء والوثنية وروح الواجب



الارتباط بالأفيال أعمق من أن يتم اختزاله لفظيا في حقيقة أن كلا منا يشبه الحيوات الذي يحبه.
أحسني فيلا، فيلا بالمعنى الحرفي للكلمة.
لو سقطت بي طائرة في براري أفريقيا أو الهند، ووقفت قبالة قطيع أفيال، سأجري عليهم متلهفا، بينما تلامس يداي الأرض وتستطيل زلومة لي، ويتضخم حجمي..سأعود للقطيع الذي حُرمت من معايشته طفلا، وتم اختطافي منه ومن قواعده، إلى حيث يقبع نوع آخر من الثدييات، يرتدي التي شيرت القطني، ويشاهد التلفاز، ويكتب عن الفلسفة، ويصيغ قواعد أنظمة رأسمالية وقحة للغاية.
أنا فيل!
1-الافتراس: لا يتعرض الفيل لهجوم الأسود إلا في الليل، وعادة ما يكون هجوما مكائديا وحشيا يستهدف صغار الأفيال، وفي غياب باقي القطيع، أما في النهار فإن الأســد ، يبدو "مسخوطا" جوار الفيل، قطا مغلوبا على أمره، ولا يفترس أيا من حيوانات الغابة في حضور الفيل، فالفيل توازن ردع أخلاقي داخل الغابة ، ويرهب الأسود في وضح النهار.
أنا شخصيا لا أحب أن أقود أو أتزعم ولا أحب النجومية المنفردة (فليكن الأسد ملكا للغابة)..لكنني لا أسمح لأي من كان أن يفترس أحدا في حضوري، لا أطيق الجور والضيم والاستعراض.
إذا ما تباهى أحد على أحد في شيء ما، أحس باستنفار داخلي، وأنكل بالمتباهي المختال، تهوينا للأمر على نفس الضعيف المسكين.
(لا تتباهى أمامي كم أنت رائع وموهوب وعظيم ولم تحدث قط، إلا إذا كنا بمفردنا معا، أما في حضور من هو أضعف من حضرتك-افتراضا- فلا تختال عليه كي لا أدق عنقك)
2-الوثنية: يرتبط الفيل على نحو حنيني، مع الأماكن التي يمر بها، ومع رفاقه في القطيع، يتذكر كل شيء وكل مكان، وحين يتوقف أمام مقبرة الرفاق القدامى أو الوالدين والأجداد، يتوتر ويحزن ويلامس عظام وجماجم الراحلين في مشهد ربما هو الأكثر كآبة وعاطفية وصدقا على وجه الأرض.
ثم يبكي لأن كل شيء حاضر في ذهنه وكل الذكريات والأماكن ماثلة أمام عينيه طوال الوقت.
3-الشعور بالواجب، وضرورة حماية القطيع ومراقبة الصغار ومساعدة المحتاج..كيف تقع عيناك في عيني من يحتاجك ثم توليه ظهرك.
4-الانطواء: الفيل انطوائي رغم مرحه، وحين يستشعر قرب وفاته، ينفصل تلقائيا عن القطيع ويذهب لأماكن المياه ويموت هناك بلا صخب أو ضجيج، فهو حين يتألم يتألم منفردا، وحين يموت يفضل ألا يتحسر عليه رفاق القطيع..شعوره أنه ذاهب لاستكمال الرحلة مع الراحلين الأول.

تماثيل الأفيال التي تحتل دولاب ملابسي، ومنضدة غرفتي، ومكتبي، وعلى شاكلتها كانت ميدالية مفاتيحي، وخلفية حاسوبي الشخصي، وأيقوناتي المتناثرة..هي رسالة وخيار واضح لهذا العالم.

الأحد، 11 سبتمبر 2011

أحمد الدريني..العم






عمي أحمد..ما رآني إلا وارتبك!
شيء قدري في علاقتنا يملي علينا ألا نرى بعضنا إلا كل سنتين أو ثلاث، مرة.
لا أخطيء نظرة المحبة-في أقصى درجات ضعفها- في عينيه..شعوره الدائم-لا أفهم منطلقاته-أنه دوما مقصر في حقي وأنه مذنب مجرم..أي حق هذا ياعم؟
يرحل ويجيء..سنوات تمضي وأخرى تُهدر..وهو يرحل ويجيء..وفي كل مجيء يملأ وجهه الخجل لأنه لم يستكمل هذا الشيء الذي لا أعرفه، ودوما كلما رآني يخرج كل ما في جيبه تقريبا ويعطيني إياه، قلت له ذات مرة منذ ثلاثة سنوات: أنا عندي 23 سنة هل تعتقد أنني سأشتري لنفسي شيكولاتة أو آيسكريم بمبلغ كهذا؟
تعود أول صورة مسجلة له في ذهني، إلى النصف الأول من التسعينيات وهو بملابسه العسكرية-أثناء تأدية الخدمة- يجلس في شرفة منزلنا يشرب الشاي ويدخن السجائر في ليلة شتوية قارسة.
كان لسبب ما متميزا في خدمته العسكرية(حصل على أنواط وتكريمات أخلاقية) وكان يشارك في العروض العسكرية والمناورات ومشاريع الحرب تقريبا.
أرقب ظهوره التلفازي في هذه العروض، بينما لا أزال غضا لا أستطيع تمييزه وسط عشرات العساكر متشابهي الملامح حد التطابق، لكن يخفق قلبي كأنه في جناحي عٌقاب محلق، حين أدرك أن عمي (هذا الذي يحبني) هو هذا البطل الذي يقفز من أسطح المباني العالية ويتسلق الأسوار الشاهقة ويصوب بمهارة شديدة.
لأجله أحب فيلم "جومانجي" فقد شاهدناه سويا، وضحكنا حتى بكينا، ومازالت الليلة التي شاهدنا فيها الفيلم سويا حاضرة في ذاكرتنا رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاما عليها.


وربما لهذا السبب أخلط لا شعوريا بينه وبين روبين ويليامز، وأعتقد أن متابعة أفلام ويليامز من قبيل الوفاء لعمي.
وإذا صادفت الفيلم على إحدى المحطات، أثبت مكاني، ثم أسلتقي-ببطء-وأشاهد الفيلم بمتعة، يفوق الحنين فيها وقع المشاهدة، وتتسلل إلي رائحة عمي، وروحه وريحانه وجنة نعيمه.
حين طالبته وأنا في الثامنة أن يدربني على القتال (مثلما يطير هو في العروض العسكرية)، لم يسخر مني ولم يهزأ برغبتي الطفلة ولم يسف أيا من آمالي، قال لي: سأدرب عقلك أولا.
عصب عيني، ووضع كوبا من الماء في خط مستقيم في غرفتي، وطلب مني أن أسترشد على موضعه ولا أخطيء فأركله وأسكب ماءه.
وهكذا..عشرات المرات.
يعصب عيني ويطلب لي أن أتعرف على العالم من حولي، أن أدرك بإحساسي أين يقع كل شيء وكيف هو قانون كل شيء، أن أدرك الهدف مهما كانت العوائق..ولما نجحت في كل الاختبارات (ربما لأجل حبه لا لتميزي) أحضر دفتر أوراق وشرع في تعليمي اللغة الفرنسية!
لكن كل التدريبات الخاصة انتهت بغتة حين قررت الأقدار انتدابه بعيدا عني، ليصبح كل نصيبني منه، تدريبات مكثفة على الرؤية في العتمة والإدراك من قلب العدم ودرس يتيم في اللغة الفرنسية (ألهذا تهربت دوما من دراسة هذه اللغة؟).
صادفني مرة، قبل 4 سنوات، وبصحبتي زميلة عمل، بالقرب من مكتبي، فانتحى بي جانبا وهو يحضنني ثم همس: هل هذه التي ستتزوجها؟
أضحك وأقول له من فضلك كف عن مشاهدة الأفلام العربي، بينما أدرك ما وراء التخمين الخاطيء.
قلت له حانقا ذات مرة: الناس تعتقد أن ما أنشره أنا هو من عملك أنت، لأننا نحمل نفس الاسم، والأوقع أن تكون أنت الصحفي لا ابن اخيك الصغير.
قال لي بصورة سريعة حاسمة: حاضر. ثم استخرج بطاقاته التعريفية، وغير اسمه فيها من أحمد الدريني، إلى اسمه الثنائي الذي لا يدل على العائلة بحال من الأحوال.
أشرد قليلا: إنه يتخلى عن اسمه لأجلي!
تمر السنون وألتقيه، ودوما أطفال العائلة حوله هو بمفرده، فهو الوحيد في آل الدريني الذي يتسع صدره لملاعبة الأطفال، والخروج بهم لحديقة الحيوانات وتصويرهم مع الأسد، وتجهيز العشاء لهم قبل النوم.
***
حين تبث أيا من المحطات فيلم جومانجي، يتذكرني وأتذكره-فنحن دوما لسنا جوار بعضنا لأسباب كونية لا عائلية لا أفهمها- ولأجل هذه اللحظة الإنسانية النادرة التي تراقب نجوم السماء كلينا فيها، أدعوكم جميعا، لتذكر أحمد الدريني حين يعرض هذا الفيلم..أحمد الدريني العم.

السبت، 27 أغسطس 2011

الحب كخانات متوازية


(عجبت لسعي الدهر بيني وبينها...فلما انقضى ما بيننا سكن الدهرٌ)..أبو صخر الهزلي

الغريب في الحب، أنه إرادة مشتركة، يستتبعها تواطؤ كوني.

وبمقدار ما هي الإرادة، بمقدار ما سيكون التواطؤ.

جذوة الإرادة حين تتقد بداخلي-دعني أحكي عن نفسي قليلا كما عودتك في هذه المدونة- أحس أنني أرغم الكون على التماهي مع إيقاعاتي الشخصية، ويلح على ذهني فيلم الكارتون الشهير fantasia 1949 الذي يلعب فيه ميكي ماوس دور الساحر، ويتحكم في الأشياء من حوله ويجعلها تدور في فلكه الشخصي.

حين أحب فلانة، تتشابك كل العناصر وتتعاضد بحيث نتقابل، ونتحدث.

حين أحب فلانة، تتشكل كل الصدف-من الفراغ البحت- كل نجتمع سويا.

حين أحب فلانة، تنحسب مكونات بعينها من المشهد ويحلها محلها مكونات أخرى، بحيث يصير المسرح لنا وحدنا، سنؤدي عليه ما شئنا، وسط استحسان مقطوع الأنفاس من هذا العدم وذاك القدر اللذان يراقبان ما يحدث في نشوة وخدر بائنين.

متى تتغير هذه الحالة؟

حين أحب فلانة (هذه)..وتحبني هي.

في هذه اللحظة، نكون إرادتان معا، في مواجهة واقع أضعف منا سويا.

أنا أثق أنني بإرادتي الشخصية منفردا أغير قوانين الكون ونواميسه.

(كنت صغيرا حين كنت أختلي بنفسي في غرفتي وأقرر-بصورة غير قابلة للتراجع- أن القوات الأمريكية في العراق لابد أن يصيبها عطب ما اليوم، فتجيء أخبار نشرة التاسعة بتدمير دبابتين إبرامز، ومقتل سبعة جنود هناك)..(لا يعنيني أن ينسبوا الأمر للمقاومة أو لجماعة أبو الزحفليت الحوقاني)

(كم أمطرت الدنيا لأجل في غير أوقات المطر، وكم تشابكت السحب أمام منزلي، وكم من مرة انكسر عنق فلان الذي أكرهه-أنا أكره بصفاء مدهش- وكم من مرة دخلت غرفتي فوجدت أحدهم ترك لي عليها كيس عسلية ونبتتي ريحان).

لكن حين تعانق إرادتي إرادة من أحب، أحس أن شكل قوتنا المشتركة مذهل.

(لذلك لا أتورع من التلويح من وقت لآخر بالخطف كفعل كلاسيكي في المتناول، مادمنا سويا في ظل إرادة مشتركة)

حين تتحد الإرادتان، يجيء كل شيء لينتظم في إطار الجاذبية التي تربط مكونات هذا المشهد مع بعضه البعض (أنا أعشق ميكانيكا الكم).

الفيرمونات: أو الروائح الجسدية الخاصة التي يفرزها جسد كل واحد منا، وعلى ضوئها وبصورة كبيرة يتحدد مدى قابلية اثنين للارتباط معا، تصبح في أدق لحظات انسجامها.

فيرموناتي وفيرموناتها..نعزف سويا مقطوعة في تمجيد الطبيعة وقوانينها الفسيولوجية الرائعة، وأقول لها ما رأيك أن أذهب لأبيك وأقول له والله يا عمي أنا وبنت حضرتك فيرموناتنا متوافقة جدا، وعشان كده أنا قررت أخطفها ولما نتجوز هعزم حضرتك طبعا.

التناسق الفلكي: كأن يمر زحل من الشمس، أو يقابل المشترى برج الأسد، أو أيا من هذا الهراء الذي تتحدث عنه ماغي فرج.

تناسقنا، يصبح اقتناصا للحظة لا تتكرر إلا كل ستين سنة.

فأنا من الذين يسيطر عليهم فلكيا كوكب (نبتون)..هذا الأزرق الجذاب المنزوي منفردا في آخر المجموعة الشمسية. وهي ستكون ممن يؤثر عليهم أي شيء.

بمراجعة الخريطة الفلكية سيتضح أن نبتون وهذا ال(أي شيء) الآن في أقصى درجات توافقهما الكوني.

كل شيء يتناسق بقدر.

يتناغم بإرادة.

لذلك الحب مشروع "إرادة" من الطراز الأول..أن نظل على إرادتنا بأن يتم هذا.

حين تنزوي الإرادة، في أي من مراحل هذا الحب (حتى في مرحلة الخلق الجنيني، التي تتطلب دأبا وإرادة مشتركة أطول، كي يجيء للدنيا هذا الحب، ولا يتحول لمجرد أثلولة جنينية-وفقا للتعبير العلمي الغبي- في رحم العاطفة ويتلاشى في العدم).

ومن ثم قال شاعر لا أعرفه:

فلا تبك حبا جنينا عليه...سقيناه هجرا طويلا فملَ

الشاهد، أن الإرادات إذا لم تحسم موقفها، فإن الحب كما يولد فكرة..يموت فكرة.

حين أقيم الأمور، أحس أن إرادتي تعاف كل شيء منذ سنة.

وأن كل بوادرها، بوادر أثلولية..إلى زوال.

وإلا فقل لي كيف لم أنجب 10 آلاف طفل إلى الآن (هي فكرة مروعة بحد ذاتها أن تكون أبا) وكيف لم أقل لكل اللوائي توافقت معهن فلكيا أو فيرمونيا (دعك من ذهنيا ونفسيا الآن) سر التجاذب الطاريء الذي لم يستطعن تفسيره وأفهم أنا سره منفردا.

إرادتي، تحتاج لنفضة ترج كياني.

الخميس، 18 أغسطس 2011

حكاية مظروف مغلق وصل متأخرا ثلاث سنوات


وصلني بالأمس مظروف مغلق..جاء متأخرا عن موعده ثلاث سنوات كاملة.

التأخر قدري بحت، لأن عملية التسليم والتسلم، لابد كانت يدا بيد، فلا دخل لهيئات البريد في الأمر بشيء.

هذه الحقيقة في حد ذاتها، على عكس ما يبدو لك، تضاعف من دراما المشهد. فالخبر المتكرر الذي ظل يطرح نفسه كل عدة سنوات على صفحات الجرائد، حول الخطابات التي أرسلها جنود في الحرب العالمية الثانية لزوجاتهم وقد وصلت لتوها في نهاية التسعينات، لم تكن لتؤلمني بمقدار ما كانت تبعثر كياني وأفكاري، وتدفعني للتخوف من خطاب لن يصل أبدا متى ينبغي أن يصل.

لقد انغلق المظروف على محتواه قبل ثلاثة سنوات، انغلاقة لن يفتحها إلا إياي، ومن ثم فمحتواه سهم القدر الذي انطلق في الفضاء ولم يعد من الممكن استرداده على وتر القوس..هكذا هو الأمر.

أتأمل المظروف وقد قطع مسافة شاسعة من بلد، حين مررت فوق ضبابه بالطائرة، قلت لا بد أن حافة العالم هنا..ولم أجد المبررات الكافية كي يخلق الله على ضفته الأخرى قارة كاملة، وبينهما محيط هادر.

أضع المظروف أمامي على المكتب، وألقي بظهري لأقصى وراء يمكن أن يسمح به انثناء الكرسي الجلدي نصف الوثير.

أتفحصه مليا، وأفكر في عشرات الاحتمالات في أجزاء من الثانية، وما بين كل احتمال وسواه، مسافة شاسعة من رد الفعل، وتأسيس أو نفي، لحقيقة كنت أتحسس ملامحها منذ سنوات مضت.

حين أفتح هذا المظروف سأحكم على نفسي، تفكيري ومشاعري، وسينتهي فصل ما من حياتي على نحو أكثر دراماتيكية مما كنت أعتقد.

ربما لو كنت أصغر سنا، ومن ثم أكثر رعونة، لفتحته فورا، دون أحسب حسبانا واحدا لا يصب في صالحي، لكن ثلاث سنوات تكفي بشدة كي يصير الواحد أكبر سنا.

تتحسسان يداي المظروف، تحسسا مرتبكا، وعيناي-على شرودهما- مثبتتان فيه، ولا صوت حولي مطلقا، كأن كل شيء قرر أن يصمت فجأة.

أتنفس بعمق، بينما يهيأ لي أن صوت سريان الدم وتدفقه في شراييني وأوردتي، يلقي بحفيفه نحو أذني، وسط هذا السكون الذي قررت إرادة ما أعلى مني أن تفرضه على الحيز المحيط بي.

أفتحه حذرا مشوشا مبعثرا، كأني لا أجيد تمزيق ورقة مقواة مطوية كي أتفحص محتواها!

يتمزق صوت الورق فأحس أن القيامة ستقوم الآن، وأشفق على نفسي من لحظة قادمة ستتبدل فيها الأرض غير الأرض.

وأمتن داخلي لقدري ومصيري، الذي يحوز فيه الأدرينالين دور البطولة، وأتساءل التساؤل البدائي: هل هي حياة سينميائية بزيادة؟ أم أننا نتعلم من السينما كيف ىيمكن أن تكون الحياة درامية على هذا النحو.

أتناول مغمض العينين ورقة، تصاحب محتوى المظروف (الذي هو في الأغلب هدية)، وأشرع في تسوية انثنائتها الكتوم.

أول ما أتناول الورقة، أرتد بغتة لسنوات مضت..الخط نفس الخط يا إلهي!

لم تتغيري قيد أنملة أيتها اليد التي كتبت..

الخط هو هو..

ما الجديد؟ هل لا ينبغي أن يكون هو هو؟ أم أنني أتخوف من تغير ما، أربطه-عسفا- بتغير في شيء آخر؟

احاول التركيز عشرات المرات كي ينتظم الخط في عيني فيستحيل إلى جمل مفهومة، بدلا من التنقلات والقفزات التي أجريها من أول الخطاب لآخره دون أن أفهم حرفا.

بعد نصف ساعة تقريبا، أضع الخطاب جانبا، وأتناول محتوى المظروف..الهدية.

هدية تشبهني جدا..هدية لي بمفردي ( كما أشترط على أي حد ينتوي مهاداتي)..هدية تطابقني، كما يطابق الخط نفسه في الخطاب!

أضع كل شيء أمامي: المظروف الممزق، الهدية التي تشبهني، الخطاب المكتوب بخط يشابه نفسه.

أغمض عيني وأقول: أروع ما حدث أنه جاء الآن..الآن فقط.